في عام 2005 توجهت للأردن من الامارات للعمل كطبيبة اسنان في أحد المناطق الأقل حظاً (ضليل) كانت نقلة غريبة في حياتي ، هنا مذكراتي وتجربتي وأنا في عشريناتي

بدأت أفكر هل ادق أحد الأبواب أم أرجع للعيادة ،انتظر عودة الأم !!

التفت حولي ، فجأة لم أعد أرى أحد في المنطقة ، منذ الصباح هناك أطفال يركضون هنا وهناك ، صوت صراخ الأمهات وجيران ينادون على بعض ،لكن فجأة في هذه اللحظة اختفى الجميع!!


قررت العودة للعيادة ، كان الطفل يمضغ بطرف كمي ولعابه يسيل على الأرض ، لم أكد أدخل لداخل حديقة العيادة حتـي وجدت طفلة صغيره تقف أمام باب المركز .


الطفلة بعصبية : هاتي أخوي .

أنا: هذا أخوكِ؟؟

الطفلة : أمي بعتتني أتناول أخوي من عندكم.


صدمت لبرود الأم !! ترسل طفلة لتأخذ الطفل!!


أنا : هذا بيبي كيف بدك تحمليه ؟بعدين إمك كيف تنساه ؟ احكيلها هي تيجي تاخده بنفسها " قلت جملتي ودخلت لداخل العيادة ،بينما كانت الطفلة تحاول القفز نحو يدي لأخذ الطفل.

رفعت الطفل لفوق : روحي نادي إمك ما في تاخديه .

بصقت الطفلة علي وقالت : هاتي أخوي .

كنت في حالة حنق وغضب من فعلة الأم : إمك يلي نسيت أخوكِ ، خليها هي تيجي تخده .

قفزت الطفله مكانها وبدأت بالصراخ والبكاء : هاتي أخوي.

أنا : لأ ،مافي.

دخلتُ للعيادة الأسنان وأغلقت الباب بالمفتاح ، فجأة تحول المشهد لمشهد درامي ، بدأت الطفلة تدق على الباب بعنف وتركله برجلها ،جلستُ على الكنبة وضعت الطفل على حضني الذي بدأ بمص أصابعه غير مكترث بما يحدث في الخارج .


هدأ الطرق وسمعت الباب الخارجي يُفتح فعلمت أن الطفلة استسلمت وخرجت من المكان.

بدأت أفكر ماذا يحدث هنا!! شو هاليوم الغريب !! أنا شو بساوي هون أصلاً.


فتحت باب العيادة وجلست في غرفه الاستقبال وبقيت أراقب الباب الخارجي للعيادة على أمل أن تأتي الأم.


ظهر فجأة ٣ أشخاص ،دخلوا للعيادة ، كان أحدهم رئيس عمال أحد المصانع ومعهم رجلين من الجنسية الآسيوية يحتاجان لعلاج الأسنان .

شعرت أن الدنيا تدور حولي ، ماذا أفعل بهذا الطفل !؟ ياليتني اعطيته لأخته !


لم يكن هناك مكان مناسب لأضع الطفل فيه ، ذهبت نحو غرفه الكشف! هل أضعه على السرير ؟ماذا لو سقط ! رجعت مرة أخرى لعيادة الأسنان ورأيت رئيس العمال ينتظر والاستغراب بادي على وجهه ! كدت أفقد أعصابي في هذه اللحظة .


لم أفكر كثيراً اعطيت الطفل لرئيس العمال ،طلبت منه أن يحمله قليلاً ، لم يرفض ولم يسأل لمن هذا الطفل !!

جلس المريض الأول على الكرسي وبدأت العلاج ،كنت متوترة وغاضبة وأشعر بالحنق على أم نوفل وعلى صفية وأمها وزبيدة أيضاً ،كله من حنة زبيدة التي اخدت عقل الجميع!!


كنت أشعر بالتوتر والخجل في نفس الوقت وأنا أعالج المريض ، شعرت بالتوتر من الموقف وبالخجل من اعطائي الطفل لهذا الشخص الغريب الذي لم يمانع بإمساكه!


سمعت صوت الباب الخارجي يُفتح ، لتظهر أم نوفل وتطل رأسها من باب عيادتي وبضحكة ساذجة: نسينا ولد صفية عندك ، جينا ناخده.


ما راح تاخديه : كان هذا جوابي الانفعالي لأم نوفل بينما لازلت أضع رأسي في فم المريض .

مشت أم نوفل نحو الطفل لحمله ، تركت المريض ووقفت أمام أم نوفل قائلة : معلش أم نوفل ، لكن ممكن تحكي مع صفية تيجي بنفسها تاخد إبنها ؟؟ هذا لو كان ابنها أصلاً.


ضحكت أم نوفل واعتقدت أنني أمزح : دكتورة والله صفية ما عندها مخ ، ما بفهم كيف نسيت ابنها!


أنا : طيب روحي ناديها هي تاخده بنفسه ،ما راح اعطيكِ إياه ،أنا آسفة.


في العادة لست شخصاً عنيداً ولا أحب الدخول في مناكفات ،لكن لا أدري ماذا حصل معي في تلك اللحظة !! هل هو تراكمات الأحداث التي حصلت معي منذ الصباح وأنا حالياً أفرغها في موقف صفية أم أنني فعلاً مزعوجة من صفية !!


كان رئيس العمال لايزال يضع الطفل على حضنه بينما يسمع حوارنا ، على وجهه الاستغراب والحيرة لم اسمع منه غير جملة : خير يا جماعة شو صاير ؟

لم أكلف نفسي حتى باجابته !

رجعت للمريض الموجود على الكرسي بينما خرجت أم نوفل من العيادة.


مضت ١٥ دقيقة كنت خلالها قد أكملت علاج المريض الأول وبدأت بالمريض الثاني الذي كان يحتاج لخلع.


فجأة سمعت صوت الباب الزجاجي الخارجي للمركز يفتح بعنف لأجد أم صفية أمامي تبكي وخلفها ابنتها تنوح : دكتورة خلص اعطيني الولد أنا آسفه ، عضة الأرنب عمتني ونسيته .

ابنتها وهي تنوح : رجيعيلي أخوي .


في قمة هذا المشهد الأكشن وجدت الدكتور ذياب والدكتور عبدالله يقفان عند الباب مستغربين لما يحدث ! لم استوعب متى دخلا للعيادة !!

كان رئيس العمال لايزال يحمل الطفل بينما ينظر نحوي وكأنه يستأذن إن كان يستطيع اعطاء الطفل لأمه !! وأم صفية تبكي وابنتها أيضاً، ودخلت أم نوفل، وأنا لتوي كنت قد أعطيت حقنة المخدر للمريض .


كان همي الأول كيف سأشرح للدكتور عبدالله والدكتور ذياب عما يحدث هنا !!

الدكتور ذياب : شو صاير؟

صفية : ما بدها تعطيني إبني دكتور.

الدكتور عبداللة: مين؟ الدكتورة ؟

أم نوفل : لا لا دكتور هو بس كان في لخبطة.

أنا : ياريت لخبطة ، دكتور كل الموضوع انو الأخت نسيت إبنها في العيادة وبعتتلي نص القرية ليستلموا إبنها .

وقف رئيس العمال واعطى الطفل للدكتور ذياب : خذه أنا مليش دخل .


شرحنا للدكتور ذياب ما حصل ، طلب من صفية أخذ ابنها والذهاب لبيتها وأعطى أم نوفل موشح عن الإهمال .

انهيت علاج المريضين اللذان لا أعلم كيف انهيت علاجهم في وسط هذه المعركة .


كان الدكتور ذياب قد توجه لغرفة الأطباء مع الدكتور عبدالله ،تاوجهت عندهم وجلست على الكنبة ، ضحك الدكتور عبدالله : دكتورة شو هذا يلي صار معك اليوم والله فيلم .

ضحك الدكتور ذياب : يعني دكتورة ليش هالأصرار تحتفظي بالطفل خلص كان اعطيتيه لأخته من البداية ليش بتوجعي راسك.

فعلا لا أدري لماذا اصابني العناد لإبقاء الطفل معي ربما غضباً أو حنقاً على إهمال صفية وتدخلاتها في حقنة الكزاز!! أو لربما لأنني لم أتناول كوب القهوة رقم ٦ .


لم يكف الدكتور عبدالله عن الضحك ، هناك شيء لم يمنعني من الغضب من ضحكات الدكتور عبدالله ، شعرت أنني أود اضحاكه طول الوقت فهناك ألم خفي في هذا الرجل الذي لا يكف أبو خالد بوصفه ( الرجل المعتر) .

دكتور عبدالله بلغ الاربعين من عمره لكن يبدو أكبر بكثير ، اسمر البشرة طويل ،نحيف وظهره منحني دوماً ورأسه مطـأطأ للأرض مفكراً وكأن هموم العالم فوق رأسه ومع ذلك فهو أسرع من يطلق ضحكة في المكان ، السيجارة لا تنزل من يده ، علمت من أبو خالد أن أهل الدكتور عبدالله من سكان الامارات حتى قبل الإتحاد ، تقاعد والده ورجع للاردن ، لم يستطع الدكتور عبدالله الزواج بسبب مسؤولياته اتجاه عائلته الكبيرة ومشكله جواز سفره هو من أصول غزوية ( حيث أنه لا يملك جواز اردني خمس سنوات ولا رقم وطني ) لذلك لا يملك العديد من الصلاحيات بما يخص العمل في الأردن، أهله في مدينة أخرى وهو يقيم لوحده في بيت من غرفة واحدة في ضليل .

جواز سفر الدكتور عبدالله هو جواز سفر عادي بدون رقم وطني وتصدره الحكومة الأردنية لسكان القدس الشرقية و سكان الضفة الغربية وقطاع غزة يختلف ببعض الميزات عن الجواز السفر الكامل


في غمرة وصلة الضحك رن مسج من هاتفي لأجد أنه من صديقتي (سارة) الصديقة التي لا يعلم العديد عنها "سيكون لها نصيب كبير في الحديث لاحقاً" .


كان المسج صغير ككلام سارة القليل :( كيفك وكيف ضليل معك ) !

كنت أود أن اكتب الكثير الكثير لسارة ولكن أعلم أن الرسائل لن تحتمل ما اريد قوله !!

(تلك الفترة كان من الصعب ارسال رسائل طويلة من الهواتف النقالة ) .


ارسلت لها رسالة أقول فيها : عندي حكي كتير لازم نطلع على سكايب ،متى جاي للأردن ؟


كانت الساعة قد اصبحت ٣:٤٤ دقيقة ،اقترب موعد الرحيل فالدوام ينتهي على الساعة ٤ مساءاً .


جاء الدكتور سامي من المصانع محمر الوجه ، تشعر أن هناك دخان يتصاعد من رأسه ويبدو منهكاً وغاضباً كالعادة و عينيه حمراوان ، لطالما شعرت أن الرجال الشقر أقل تحملاً من الرجال السمر !!


وكالعادة بدأ دكتور سامي بالتكلم بغضب عن فوضى اجراءات المصنع في فحوصات العمال وغيره من تفاصيل لم أفهمها ، ومر من أمامي قائلاً :لساتك صامدة !!

ماذا لو علم ما حدث معي اليوم !١


حان وقت الرحيل بدأ الجميع يستعد للخروج من المركز ، نظر نحو أبو خالد وقال : دكتورة بلاش اليوم تتشعبطي بالمواصلات تعالي أخدك بالسيارة لحتى مجمع الباصات الأقرب لبيتك أنا ماخد معي دكتور ذياب ودكتور سامي .

رفضت فوراً عرضه ففكرة الركوب مع مجموعة من الرجال منذ أول يوم كانت مرفوضة بالنسبة لي .

نظر نحوي الدكتور سامي : صدقيني دكتورة بهالشوب لو طلعتي بالمواصلات ،حتغيري رأيك ترجعي لضليل مرة ثانية ، هذا إذا أصلاً ما غيرتِ رأيك من البداية !


اقنعني الجميع بالركوب مع أبو خالد قائلاً أننا يجب أن اتدلل في أول يومٍ لي ، كان لأبو خالد سيارة( لادا) الروسية موديل ١٩٨١ ،زرقاء اللون ، تشبه بنيتها القوية عناد أبو خالد ، عندما هممت بالركوب بها عرفني بسيارته كأنها ابنته!!

لادا سيارة روسية عريقة وقوية اشتهرت منذ السبعينات
طبيبة المصنع ٩ ( البحث عن صفية)73394475155260670




ركب الدكتور ذياب في الأمام والدكتور سامي في الخلف معي ، كنت متوترة بالركوب معهم لكني رضخت أمام عناد أبو خالد ! عندما ركبت لاحظت أن مقابلي عصى خشبية تمتد أمامي بين البابين ، انتبه الدكتور سامي أن هذه العصاة أثارة استغرابي : دكتورة هاي العصاي عشان تتمسكي فيها مثل لما تركبي الملاهي .

أنا : أتمسك فيها !! طيب ليش؟


لم أكد أكمل الجملة حتى انطلق أبو خالد بشكل مثير للدهشة ، لا يوجد هناك أي تهيئة في هذه السيارة فهي تقفز لسرعج ١٠٠ فوراً.


بالرغم من عمر أبو خالد الكبير لكن كانت سواقته كسواقه شاب متهور في العشرين قد سرقة سيارة والده للتو !!

شعرت بالرعب ومسكت بالعصى الخشبية ،كان الدكتور سامي يمسك بها أيضاً وينظر نحوي وهو يضحك .

شبابيك السيارة جميعها مفتوحة فلا يوجد هناك مكيف ، كان أبو خالد يجاوز السيارات بمهارة وبشكل جنوني ،الجميع من حوله أيضاً يبادله الجنون حتى الشاحنات ،كانت سرعة السيارة مرعبة لدرجة أنني تخيلت أننا قد نسحق أسفل أحد هذه الشاحنات . كان الهواء يدفع وجهي وتخيلت للحظة أن عيني قد ازاحت من مكانها !!


كان أبو خالد يتبادل الحديث مع الدكتور ذياب بكل برود دون الاكتراث لما يحدث بنا في الخلف وعند اشتداد الحديث كان يترك المقود ويشاور ويعبر بيديه !مما يزيد رعبي أن السيارة قد تخرج خارج المسار ! كنت مصدومة كيف يمكنه فعل كل ذلك بمهارة دون التسبب بقتلنا!!


مررنا بجانب منطقة مزدحمة أشار نحوها الدكتور سامي وتحدث بشيء مع أبو خالد بما يخص ( المنطقة الحرة) وفهمت أن الدكتور سامي يشرف على الفحص الطبي لبعض العمال هنا أيضاً.


وصلنا لمجمع الباصات أخيراً ،شعرت أنني كنت أركض طوال الوقت!!

نزلت أنا والدكتور سامي وأكمل الدكتور ذياب مع أبو خالد .


الدكتور سامي وهو يشير نحو أحد الباصات : إنت حتركبي هداك الباص .

أنا : أه بعرف

الدكتور سامي : قلت أحكيلك .

أنا : شكراً

الدكتور سامي : أكيد بكرة ما راح تيجي صح ؟

أنا : ليش ما أجي ، أكيد حاجي .

الدكتور سامي : يعني فكرت ما حبيتي المكان ، حلو يعني بنشوفك بكرة .

أنا : إن شاء الله .

الدكتور سامي : أنا هداك باصي ، اذا بتخافي بركب معك وبوصلك وبعدين برجع لباصي بيوتنا قريبة لبعض .


أنا : دكتور سامي على فكرة أنا مو أول مرة بجرب أركب الباصات .

ضحك الدكتو سامي ضحكة غريبة لم أفهمها وقبل أن يلتف للخلف نظر نحوي وقال : طيب معك فكة للباص .

أنا : معي ، شكراً .

لأول مرة أرى الدكتور سامي هاديء بهذا الشكل منذ الصباح !


ها هو يومي الأول انتهى كان اشبه بعاصفة رمتني هنا وهناك ، بالرغم من حماسي بالعودة للبيت واخبار الجميع بمغامر اتي لكن كان لدي الرغبة في عدم ركوب الباص الأول والعودة للبيت إنما الذهاب لسوق البلد والتجول هناك ولا بأس من تناول عصير بارد ورؤية واجهة المحلات.


شعرت أنني احتاج أن أكون لوحدي لبعض الوقت .


يتبع













Areej Toyllywood

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

كلماتٌ تلمسُ القلب!
رائعة.. أحسنتِ!

إقرأ المزيد من تدوينات Areej Toyllywood

تدوينات ذات صلة