إلقاء الضوء على بعض حكايا البشر ، فالحياة تسدد الكثير من الصفعات لهم صغارا كانوا أم كبارا ، والأجدر بالحياة هو القادر على النهوض والثبات في وجه الصدمات .

ملحمة بطل صغير

اعتادت زيارة دار الأيتام مرة في الأسبوع، تحمل بين يديها الهبات والمنح، فمرة تحضر ما لذ وطاب من أطعمة وأشربة، أو ما تشتهيه العين من ألوان وأثواب، إضافة إلى مجموعة ألعاب وبالونات تزيح مسحة الحزن عن جباه نهبت منها الدنيا أغلى الكنوز وأثمنها، لتتركها جثث ملقاة على قارعة الطريق، وحروف مكتوبة في هامش الكون....نظرة متمهلة إلى ملامحهم ، تريح الوجدان، وتجعلك تدرك أن في ذلك المكان ما يستحق التقدير والامتنان، وجوه تضج براءة ونقاء، وجوه ضاحكة مستبشرة، أفواه تبوح لك بكلمات ليست كالكلمات، تحلق بك على أجنحة الطير، وتزرعك في أحلى وأعلى الغيمات....رغبت الصحفية المدفونة في عمقها، أن توثق كل حكايا ومذكرات أناس بسطاء، أثقلت الهموم عاتقهم، وكان الحزن يجثو بقسوة وطأته على صدورهم، تمنعهم عزة النفس من طلب العون، وهم في أدنى درجات الحاجة، ليس للأشياء المادية فحسب، بل لكل همسة دافئة، أو لمسة حنونة، أو يد تربت على كتفها عندما تضربها أمواج بحر الحياة....جذبها طفل يشبه في أسلوبه أبطال أفلام الكرتون والرسوم المتحركة، في الثمانينات (توم سوير، عدنان ولينا...) طفل كثير الحركة، مغامر صغير، مشاكس أحيانا، لكنه في نفس الوقت، يحمل بين ثنايا قميصه جسارة بطل وشجاعة قائد، قلبه جميل ورقيق كزهرة برية . ترددت كثيرا قبل أن تستجمع جرأتها وتسير نحو مخدعه البعيد الهادي، وعاصفة من الأسئلة تحوم حول رأسها:هل سيتقبلني؟ ويسمح لي بالتحدث معه؟

ما هي قصة هذا الصغير؟ هل سيسمح لي بدخول عالمه الغامض؟ هل سيبوح لي بأسراره؟ما إن وصلت حتى تلاشت كل الأسئلة كفقاعات صابون لامعه، مدت يدها لتصافحه، مع نظرة قوية صوب عينيه المتألمة واللا مباليه..

مرحبا اسمي نور هل يمكن أن اتعرف بك عزيزي؟

كانت نظرتها كسهم اخترق قلبه وروحه، ثم خرجت الحروف من بين شفتيه :-لا أعرف ما الاسم الذي أطلقه علىّ والداي المتوفيان، لكنهم اختاروا لي اسما في هذه الدار ( عمر ) وهو اسم يروق لياسم جميل ويذكرني بعمر ابن الخطاب الخليفة الراشدي، وعمر بن عبد العزيز خليفة بني أمية، وكلاهما ذاع صيت أخلاقهما وتقواهما.... ولأن لكل إنسان من اسمه نصيب، لا بد وأنك تحمل بين ثنايا روحك وجنبات قلبك الكثير من التقوى والخلق النبيل صديقي - أيمكن أن نصبح صديقين؟ سؤال ألقته على مسمعه أثناء الحديث...

افتر فمه عن ابتسامة عذبة صادقة بريئة وردد :نعم نعم أقبلأخذت نور تزور الصغير عمر يوميا، تحمل معها هدايا جميلة ومفيدة، كانت تقضي معه الساعات وهما يركبان قطع (الليغو) و (البازل) منشئين قصور وقلاع، وبعد اكتمال البناء ينظران لبعضهما نظرة رضا وفخر...

كما شاركا كثنائي في كل المسابقات الرياضية والثقافية التي كانت تجريها الدار بهدف رفع مستوى الأطفال وتعزيز مواهبهم...وهكذا توطدت العلاقة بين الفتاة والصغير، وتعلقا ببعضهما كأم ووليدها، وتفجرت في عمقها أمومة طاغية، وفي أحد الأيام توجهت نحو مكتب المسؤولة عن الدار، تنشد وتروم معلومات عن الصغير عمر، عائلته، ماضيه، وحاضره، كل تفصيل من تفاصيل شخصيته.... وبعد جلسة طويلة مرهقه وعندما استشعرت لهفة نور وتعطشها لمعرفة سيرة حياة عمر قدمت لها ملفا يحوي كل الأوراق الرسمية المتعلقة بعمر. كانت المفاجأة صادمة، أفقدتها اتزانها وصوابها، فقد أبصرت في الأوراق معاناة بدأت قبل الولادة، وعلق بحبالها صغيرنا حتى نهاية الزمن..

قد كانت والدة عمر تعاني من ثقب في القلب، وهذا الأمر لم يتم اكتشافه إلا بعد حين، عندما أجرت بعض الفحوصات الطبية الدورية بعد أن حملت بوليدها - رغم تحذير الأطباء - بقى الصغير ينمو في أحشاء أمه، وهي تعاني الأمرين، لكن كانت فرحتها بهذا الكائن الجميل تمحو كل أثر لألم وهم، ويستبدله بفرح وطمأنينة..

موت وولادة، وجهين لعملة واحدة، أضحت ولادة عمر ختام لسيرة حياة والدته المجاهدة، وأمسى اليتم نديمه، والوحدة جليسته، والحزن عباءته، لم يحظ بما حظي به أقرانه من أمان وسكينة....

ورغم كل العثرات في حياته، كانت هناك بقعة ضوء تنير له عتمة أيامه المقبلة، هي صورة والدته، التي يحتفظ بها بمحاذاة قلبه الصغير، وصفات جميلة ورثها عنها، جعلت منه جذابا وقويا...بعد قراءة الملف أيقنت نور بأن الحياة لا تشفق على أحد صغيرا كان أم كبيرا، وأدركت بأن الله جل وعلا أتاح لها فرصة يجب أن تستغلها، كي تحقق الغاية من وجودها، ألا وهي بناء إنسان..

أرادت بشدة أن تتبنى هذا الطفل، فهو هبة من المولى، ليعيد الرطوبة لغصنها الجاف....الرابع عشر من شباط 2020


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات نريمان نزار

تدوينات ذات صلة