"ولأول مرة في عُمر حياته، بدأ القلب يشعر بأنه حرا طليقا ملكا لنفسه وليس لعقله"
منذ ولادته وهو مختلف في سلوكه وعمله وهواياته. فما من مرة تحين فيها مناسبة إلا وأخبرته أمه بأنه لم يبك لحظة ولادته وكأنه يعلم أن الحياة القادمة كلها معارك. وهو طفل، كان مختلفا وأكبر من عمره بعشرة أعوام. كان عقله مختلفا في كيفية رؤيته وتفسيره للأمور. كان قلبه مثل ورق الشجر الأخضر في ربيع دائم. ربته الحياة بقسوتها والناس بأفعالها الحلوة منها والمرة. وكلما جري به العمر أصبح عقله وقلبه في عراك مستمر، مرة لصالح قلبه ومرات لصالح عقله.
ومضي به العمر سريعا، وأصبح عقله لا يعرف معني الصبر، عقلا متحفزا وثائرا حتى علي القلب الذي يدفع إليه الدماء طواعية مع كل ثانية يفكر فيها. وظل العقل مفتوحا على مصراعيه لكل مظاهر الحياة بلا تردد.
ورويدا رويدًا، تقوقع العقل في جمجمته طواعية، وزهد التحفز والثورة على اللامبالاة والسطحية، وأصبح ينظر إلى العالم الخارجي من وراء عينيه، ويسمع من وراء أذنيه، ولا يُلقي بالاً بكل ما يعكر صفوه أمامه وخلف وحوله، وكل مرة يكتفي بهزة من جمجمته يعقبها ابتسامة لا يدرك مغزاها سواه.
ورويدا رويدًا أصبح القلب، الذي كانت حدود عالمه الضلوع، يتسع بمليء صدره، يتمدد وينكمش كما يشاء، ويزيد من نضاره ويبطئها كيفما واينما يشاء، بعيدا عن أوامر العقل القاسية وأفكاره الثائرة.
ولأول مرة في عُمر حياته، بدأ القلب يشعر بأنه حرا طليقا ملكا لنفسه وليس لعقله. وبدأ القلب يخفق كيفما واينما يشاء. مرة كالطفل البريء، ومرة كالشيخ الحكيم، ومرة كالفارس المغوار بآل سيف ومرة كالفرس الذي يحمل على ظهره ألف سيف. تارة يعيش بنبض مراحل العمر بأثر رجعي، ومرة بنبض الأيام القادمة، وإن أصرّت ألا تأتي.
وهنا أصبح لصاحبنا عقلا زاهدا وقلبا حانيا. وفرح صاحبنا كثيرا بهذا الإحساس العجيب، رغم أنه يعلم تماما اليقين أن ذلك الإحساس يغاير طبيعته بل وعلى النقيض، ولكنه قد ارتاح لهذا الإحساس العجيب.
ولم يمضي شهراً واحداً على هذا الإحساس الساحر، حتى أفاق فجأةً العقل من زهده، واستيقظ القلب من خلوته، وعاد صاحبنا إلى طبيعته، وابتسامة واسعة تغلف شفتيه ولا أحد يعلم سرها سواه.
خالص تحياتي
د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم جعت طنطا
وكاتب وروائي
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات