"وإني لأتعجب كيف لهذا الأديب المبدع ألا يحصل على جائزة نوبل في الأدب"
اليوم 28 أكتوبر تحل ذكري وفاة عميد الأدب العربي طه حسين. ومع أني لم أقرأ له كثيرًا إلا بعد انتهائي من مرحلة دراستي الجامعية، إلا أن قراءتي لروايته "الأيام" والتي تجسد مشوار حياته جعلتني متيمًا بهذا الرجل الذي يمثل لي أيقونة للرجولة والإنسانية، والكفاح المنظم، والعلم الغزير، والفكر اليسير. الرجل الذي تحدي ليس فقط نشأته القروية وفقره في طفولته، ولكن الأهم فقدان بصره في مقتبل العمر.
وقد دمعت عيناي وأنا أقرأ ذكري وفاة عميد الأدب العربي طه حسن علي صفحة أحد أصدقائي المثقفين المبدعين والحريصين على الثقافة والمعرفة. دمعت عيناي لسببين، أولهما تذكري لرحلة حياته المليئة بالمعاناة والكفاح المرير على طول مشوار حياته وكيف أنه صبر وصابر حتى تغلب على كل الصعاب وأصبح من أشهر كتاب ونقاد العرب في العصر الحديث. وثانيهما عدم وجود تغطية إعلامية عن هذا الرجل بأي صورة رغم أن حياته مليئة بالمواقف النبيلة التي من الممكن أن تكون منبعًا للمثقفين والإعلاميين لاستلهام روح الكفاح والنجاح والتميز للشباب والكبار خاصة وسط الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد والعالم.
وولد طه حسين علي بن سلامة وشهرته طه حسين في 15 نوفمبر 1889 في قرية "الكيلو" مركز مغاغة بمحافظة المنيا بصعيد مصر. وكان ترتيبه السابع من إحدى عشر ابن. ورغم أنه فقد بصره وعمره أربعة أعوام إلا أنه عاش ٨٣ عاما مليئة بالكفاح والإنجازات حتى توفي في 28 أكتوبر عام 1973م أيام انتصارات أكتوبر المجيدة. وقد قد حصل على الدكتوراه عام 1914 ثم ابتعث إلى فرنسا ليكمل الدراسة ثم عاد إلى مصر ليعمل أستاذًا للتاريخ ثم أستاذًا للغة العربية. عمل عميدًا لكلية الآداب، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية. وتولي د. طه حسين منصب وزير (المعارف) التربية والتعليم في وزارة مصطفي النحاس باشا لمدة عامين في الفترة من ١٩٥٠ الي ١٩٥٢. د. طه حسين أديب وناقد كبير، لُقّب بعميد الأدب العربي حيث يعتبر من أبرز الشخصيات في الحركة العربية الأدبية الحديثة.
ولم يُكمل طه حسين تعليمه بسهولة، ولكنه مر بمراحل عصيبة كان أحيانا هو سببا فيها وان كنت شخصيا أعتقد أنه لولا هذه الصعاب ما كان طه حسن عميدًا للأدب العربي. فقد دخل طه حسين جامع الأزهر للدراسة الدينية في عام 1902، فحصل علي شهادته التي تخوله التخصص في الجامعة، لكنه ضاق ذرعاً بالتعليم الأزهري وقتها حيث وصفه بالرتابة، وعقم المنهج، وعدم تطور الأساتذة والشيوخ وطرق وأساليب التدريس.
وعندما فتحت الجامعة المصرية أبوابها عام 1908 كان طه حسين أول المنتسبين إليها، فدرس العلوم العصرية، والحضارة الإسلامية، والتاريخ والجغرافيا، وعدداً من اللغات الشرقية كالعبرية والسريانية. ورغم انتقاله للجامعة إلا أنه ظل يتردد على حضور دروس الأزهر والمشاركة في ندواته اللغوية والدينية والإسلامية حتى سنة 1914، وهي السنة التي نال فيها شهادة الدكتوراه وموضوع الأطروحة هو: «ذكرى أبي العلاء» التي أثارت ضجة في الأوساط الدينية. ومع أنه قد مُنِعَ من الحصول على درجة العالمية في الأزهر الشريف، إلا أنه قد بلغ أعلى درجة علمية في الجامعة، بنيله شهادة الدكتوراه وهكذا صار رجل «جامعة» بدل أن يصير رجل «جامع». فقد كان إفشاله في الجامع أعظم حافز نحو النجاح المبهر في الجامعة.
وفي العام نفسه، أي في عام 1914 أوفدته الجامعة المصرية إلى مونبلييه بفرنسا، لمتابعة التخصص والاستزادة من فروع المعرفة والعلوم العصرية، فدرس في جامعتها الفرنسية وآدابها، وعلم النفس والتاريخ الحديث. وظل لمدة عام هناك ثم عاد إلي مصر بسبب حرمانه من البعثة نتيجة معارك وخصومات متعددة، محورها الكبير بين تدريس الأزهر وتدريس الجامعات الغربية ما حدا بالمسؤولين إلى اتخاذ قرار بحرمانه من المنحة المعطاة له لتغطية نفقات دراسته في الخارج، لكن تدخل السلطان حسين كامل حال دون تطبيق هذا القرار.
عاد طه حسين إلى فرنسا من جديد لمتابعة التحصيل العلمي، ولكن في العاصمة باريس فدرس في جامعتها مختلف الاتجاهات العلمية في علم الاجتماع والتاريخ اليوناني والروماني والتاريخ الحديث وأعد خلالها أطروحة الدكتوراه الثانية وعنوانها: «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون»، وكان ذلك عام 1918 إضافة إلى إنجازه دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني، والنجاح فيه بدرجة الامتياز، وخلال تلك الفترة تزوج من سوزان بريسو الفرنسية السويسرية الجنسية التي ساعدته على الاطلاع أكثر فأكثر باللغة الفرنسية واللاتينية، فتمكن من الثقافة الغربية إلى حد بعيد. وكان لهذه السيدة عظيم الأثر في حياته، فقامت لهُ بدور القارئ فقرأت عليهِ الكثير من المراجع، وأمدته بالكتب التي تمت كتابتها بطريقة برايل حتى تساعده على القراءة بنفسه، كما كانت الزوجة والصديق الذي دفعه للتقدم دائماً وقد أحبها طه حسين حباً جماً، ومما قاله فيها أنه «منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم»، وكان لطه حسين اثنان من الأبناء هما أمينة ومؤنس.
ومن أشهر أعماله الأدبية روايته "الأيام" التي جسدت مشوار حياته وتحولت إلي مسلسل تليفزيوني وفيلم ومقرر علينا كطلاب في المرحلة الاعدادية. وكان لهذه الرواية أثر بالغ في تحفيزنا ونحن طلاب نحو مزيد من الكفاح والصبر والتميز. فكيف لطفل ضرير في بيئة ريفية فقيرة أن يصبح حافظا للقرآن والشعر وقارئا للأدب المحلي والعالمي ويتعلم ويتكلم الفرنسية ويسافر ليتعلم في فرنسا ويعود ليعتلي عمادة كلية الآداب ويصبح عميدا للأدب العربي كله. انها معجزة انسانية بكل المقاييس، بل معجزة فكرية وعلمية وأدبية. ومن أعماله البارزة أيضا رواية "دعاء الكروان" والتي تحولت إلى فيلم سينمائي وكتابه "الشعر الجاهلي" الذي تمت محاكمته عليه نتيجة قضية رفعها الأزهر وقتها، وكتابه مستقبل الثقافة افي مصر.
وأنا من أشد المعجبين بهذا الرجل، رحمة الله عليه، رغم وجود اختلاف من البعض على بعض انتاجه الأدبي وخاصة كتابه عن الشعر الجاهلي. إلا أني عندما أقرأ له أجده فريدا في أسلوبه ومتميزا في نهجه وعالما بما يقول ومفكرا في أعماق الأفكار والمواضيع وممسكا وقابضا على مفردات اللغة ومعانيها وتوظيفها بطلاقة لصالح ما يقول. والأهم جرأته غير العادية في تناول القضايا التي كان يؤمن بها والتي لم يكن أحد ليجرأ أن يتناولها. إنه ليس فقط اكيد الأدب العربي، ولكنه بطل الأدب العربي. وإن كنت لأتعجب كيف لهذا الرجل لا يحصل على جائزة نوبل في الأدب وهو الأحق بها. كيف لم يسوق لهذه الجائزة التي كان يستحقها بجدارة ليس بسبب نجاحاته رغم معاناته، ولكن بسبب انتاجه الادبي المتميز وصراعاته لصالح التعليم المجاني في مصر والعالم العربي.
كلما استمعت إلي صوت الفيلسوف طه حسين في البرامج القليلة المسجلة له في برنامج "حديث الأربعاء" كحديثه عن سيدنا عمر بن الخطاب، أشعر بحلاوة كلماته تسري في دمائي ولحن ألفاظه في أذناي، أشعر وكأني استمع إلى أغنية وسيمفونية من الأدب العربي الأصيل.
رحمك الله يا طه حسين يا عميد وبطل الأدب العربي.
د. محمد لبيب سالم
كاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر
https://www.youtube.com/watch?v=4Z5dLFCaGls
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
https://www.youtube.com/watch?v=vnHLE_Jb1tg