"الصيام شهر واحد في العام هو علاج للروح بالتخلص من النفايات النفسية، وهو علاج للجسد بالتخلص من النفايات البيولوجية"
"كل مساء بل كل عدة ساعات تقوم بـتنظيف غرفتك وخاصة مطبخك وإلا تراكم الغبار والتراب وآثار الاقدم والطعام. وكل أسبوع أو أسبوعين لا بد من عملية تنظيف كبيرة للمنزل بالكامل، ثم كل عام بـعملية تنظيف وترميم وتجديد ولو بسيط أكبر، وإلا أصبح كل ركن في البيت مكانا للنفايات حتى وإن لم تكن نراها فهي ترانا وتؤذينا."
وهكذا الصيام، فرضه الله لأنه اصلاح نفسي وجسدي. اصلاح نفسي للتخلص من كل النفايات النفسية التي علقت بالروح من خصام وحقد وغيبة ونميمة وبهتان من ناحية، ومن هموم وأحزان وقلق وتوتر من ناحية أخري. فمن يؤمن بالصيام وبمن فرض وكتب عليه الصيام، فلسوف يشعر بطمأنينة كبيرة لطاعته وحبه واخلاصه لله، وكذلك لتوقفه طواعية ويتوقف عن إيذاء الآخر ولو لفظا.
وفوق كل ذلك، يشعر الإنسان الذي يشعر بالوحدة بالمشاركة المجتمعية ولو في أبسط صورها وقت الفطار وهو الوقت الذي يجمع الصائمين على الإفطار حتى ولو كان كل في بيته، أو على طريق، أو في عمل، ولو كان الفطار مجردة تمرة. إنه الشعور بأنك تفعل نفس الشيء مع الآخرين في نفس اللحظة ولو في امكنة مختلفة وبطريقة مختلفة. فما أجمله من شعور نفسي رائع يبدد الوحدة ويبدد الاكتئاب. فما بالنا لو كنت وسط عائلتك أو أصدقائك، وما بالنا لو كنت علي قارعة الطريق ووجدت الكثير من الأيادي تتنافس لتعطيك ما يكفيك لجرح صيامك.
أما فائدة الصيام للجسد فهي هائلة، لأنها تحفز جميع خلايا الجسم على إعادة تدوير البروتينات التالفة والمعطوبة والقديمة والاستفادة منها لترميم وإصلاح، بل وتجديد نفسها تماما. فمن ناحية، تتخلص الخلايا من النفايات البيولوجية المتراكمة فيها طوال العام، ومن ناحية أخري تستفيد منها في تجديد الجسم كله. ومع أن عملية تجديد الخلايا في الجسد تتم يوميا، إلا أنها تتباطئي أحيانا أو تتعطل بسبب النظام الغذائي السيء الذي يتبعه بعض الناس بل يتبعه كل منا في وقت ما بصورة أو بأخري.
وتسمي عملية إعادة تدوير النفايات البيولوجية وخاصة البروتينات والدهون Autophagy أوتوفاجي أي أكل الذات، والذات هنا مقصود به أجزاء الخلية من قبل الخلية ذاتها. وهذه الكلمة Autophagy أصلها لاتيني ومكونة من جزئيين، "اوتو" ومعناها ذاتي، و "فاجئ" ومعناها أكل. وكانت كلمة "الالتهام الذاتي" موجودة واستخدمت بشكل متكرر منذ منتصف القرن التاسع عشر. في استخدامه الحالي، ثم صاغ عالم الكيمياء الحيوية البلجيكي كريستيان دي دوف مصطلح الالتهام الذاتي في عام 1963 بناءً على اكتشافه لوظائف الليزوزوم Lysosome. ثم أدي تحديد الجينات المرتبطة بالالتهام الذاتي في الخميرة في التسعينيات للباحثين باستنتاج آليات الالتهام الذاتي، والتي أدت في النهاية إلى منح جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء لعام ٢٠١٦ للباحث الياباني يوشينوري أوسومي لاكتشافه كيفية عمل الالتهام الذاتي بدقة في الخلية وما لها وما عليها. والبروفيسور يورشينوري هو سادس عالم ياباني المولد يحصل على نوبل في مجال الطب وهو الياباني رقم 23 يحصل على جائزة نوبل. وبالطبع استحق يوريشينوري الجائزة نظرا لتطبيقاتها الكثيرة في الصحة والمرض والشيخوخة.
وعملية أكل الذات أو الأوتوفاجي هي عملية طبيعية تتم كل ساعة في كل خلية بأجسادنا وكذلك جسد الحيوانات منذ المرحلة الجنينية بغرض ضبط إيقاع عمليات الهدم والبناء في الجسم ليبقي دائما الجسم بعد وصوله إلى مرحلة النضج في حالة ثبات في الطول والعرض والحجم والوزن. فقبل الولادة وأثناء المرحلة الجنينية المبكرة قبل تشكيل الخلايا في صورة جسد تحدث علمية "أكل الذات" بسرعة وباستمرار ولكن بغرض تمييز الخلايا إلى أنسجة بعينها. وأثناء هذه العلمية تموت بعض الخلايا الجنينية وتتحلل عن طريق الأتوفاحي لكي تفسح الطريق للخلايا المجاورة لتتشكل إلى أنسجة بشكلها الوظيفي، أي تضحي بنفسها لتتغذي عليها الخلايا الأخرى.
والجميل أن عملية أكل الذات لا يصاحبها حدوث التهابات كالتي تحدث أثناء الأنواع الأخرى من موت الخلايا وهما الموت الذاتي المبرمج Apoptosis والموت المفاجئ Necrosis. فالموت المبرمج يؤدي إلى التهاب في مكان الموت والذي قد يُحتمل ويتم التخلص منه أولا بأول، أو قد يؤدي إلى أذى كبير للنسيج الذي حدث فيه الموت. أما الموت المفاجئ للخلايا أو النسيج، بسبب الحرق أو الأشعة أو مادة سامة فحتما يؤدي إلي أذى كبير. فعلي عكس عملية أكل الذات أو الموت المبرمج الذي يحدث في المرحلة الجنينية، فإن الموت المفاجئ لو حدث في الجنين سيؤذيه وقد يتسبب في طفرات وتشوهات.
وتمثل عملية "أكل الذات" رمانة الميزان للجسم، ليبقي دائما في حالة توازن Homeostasis والتي يجب أن يزداد مع تقدم العمر عندما يزداد تراكم النفايات البيولوجية بطبيعة الحال، خاصة في غياب ممارسة الرياضة وسوء نظام التغذية من زيادة الشحوم، والاعتماد علي الأطعمة الجاهزة الغير طبيعية، وبسبب التوتر والاكسدة وقلة النوم. كل هذه العادات الغذائية والسلوك السيئ يؤدي إلى تراكم رهيب من كميات إضافية من الدهون والبروتينات في جميع الخلايا وإن كان بنسب مختلفة.
ويضاف إلى هذه النفايات البيولوجية والغير بيولوجية القادمة من خارج الجسم، نفايات بيولوجية من نواتج التمثيل الغذائي كمنتجات نهائية لا يستفيد منها الجسم فتتراكم فيه وتؤذيه. وهنا يأتي دور عملية أكل الذات والتي تقوم بإعادة تدوير كل هذه المخلفات الخارجية والداخلية المتراكمة وتحولها إلى مواد نافعة للخلية ذاتها، خاصة أن كل خلية أدري بما ينفعها وما قد تراكم فيها هي وليس غيرها. وقد نشبه عملية التدوير هذه بالمصانع التي تقوم بتجميع النفايات الصلبة والشبه صلبة والسائلة، ثم تقطيعها وفرمها، ثم إعادة تشكيلها إلي مواد جديدة نظيفة لتصنع منها كل المنتجات المطلوبة للخلية من طاقة وبروتينات.
وأثناء عملية الالتهام الذاتي يتم استهداف المكونات السيتوبلازمية المعطوبة أو في حالة شيخوخة (مثل الميتوكوندريا) وعزلها عن بقية الخلية داخل حويصله مزدوجة الغشاء تُعرف باسم جسيم البلعمة الذاتية Autophagosome، والتي، بمرور الوقت، تندمج مع الليزوزوم Lysosome، مما يؤدي إلى عملية تخصصها في التخلص من النفايات الإدارة والتخلص؛ وفي النهاية تتحلل محتويات الحوصلة والتي تسمى الآن Autolysosome ويعاد تدوير مكوناتها.
ولأن معظم الأمراض تكون بسبب تراكم النفايات البيولوجية والغير بيولوجية أو بسبب عطل أو عطب حدث لبروتينات بعينها، فالأكل الذاتي هو الطريقة المثلي للتخلص من الزيادة ومن المعطوب لتخليق بروتين جديد صالح وصحي وقوي، كما تعلمت الخلايا وتدربت عليه. وبالطبع هذا الأسلوب الذاتي في اصلاح الذات هو أفضل بكثير من إعطاء الادوية والتي قد تسبب نفسها مشاكل كبيرة حتى وإن قامت بحل بعضها. وقد ثبت ذلك في كثير من الأمراض مثل الزهايمر وتصلب الشرايين وامراض القلب والسكر وخلل الهرمونات.
والصيام هو المحرك الأكبر لإيقاظ جميع الخلايا في الجسم لتقوم بعملية أكل الذات وتدوير المخلفات البيولوجية. فصيام ١٧ ساعة متوالية هو الوقت المطلوب لإيقاظ هذه العملية المهمة مع مراعاة عدم تناول الكثير من الطعام الغني بالجلوكوز والبروتينات أثناء الإفطار. ولكن مجرد وجبة خفيفة تعتمد أكثر على البروتينات وليس سكر الجلوكوز. ثم التوقف عن تناول الأكل مرة أخري حتى السحور لنعطي الفرصة للخلايا لتكملة عملية التنظيف وإعادة التدوير الذاتي. وهناك العديد من الأطباء الذين يقومون بمعالجة مرضاهم ببرنامج الصيام المتقطع (صوم يوم وافطار يوم) والمكون من ١٧ ساعة علي الأقل بغرض ايقاظ عملية التدوير الذاتي للمخلفات البيولوجية وإعادة الجسم رويدًا رويدًا إلي طبيعته بعيدا عن التخمة والشيخوخة والمرض الصامت والصارخ.
وكما فرض على الأمم السابقة من قديم الأزل، فقد فرض الله علينا الصيام لأنه يحبنا ويعلم ما هو الصالح لنا حتى وان كان صعبا علينا. وقد أستطيع إطلاق المثل الشعبي "تعب ساعة ولا كل ساعة" على شهر الصيام. فبالفعل "تعب ٣٠ يوم صوم ولا مرض كل يوم". فمع أننا بالفعل نصوم تلقائيا يوميا كل مساء عن الطعام والماء وحتى عن إيذاء الآخر عندما نخلد إلى النوم، إلا أنه ليس صوم بيقظة عندما تكون النفس خلايا الجسد غائبة عن الوعي ويكون التمثيل الغذائي ووظائف الخلايا في أدني صوره.
أما صيام النهار فشيء آخر لأن الخلية جوعانة وتحتاج إلى طاقة متجددة في الحال لكي نستطيع أن نتحدث بها ونحرك أيدينا وأرجلنا ونفكر. وهنا تبدأ الخلايا تحت الحاجة الملحة في البحث عن مصادر من ذاتها (الحاجة أم الاختراع) طالما انقطع عنها المد الخارجي من سكريات ودهون وبروتينات. وهنا تبحث الخلية عما تراكم فيها من نفايات أو أي زيادات من الدهون أولا ثم البروتينات ثانيا للحصول على طاقة تستخدمها لتبقي علي قيد الحياة، ولتكوين أحماض امينية تبني بها الخلية ما تلف منها.
وعملية الأتوفاجي نتيجة للصيام هي عملية سحرية بالفعل، تقوم فيها الخلية بـكنس التالف والمعطوب والقديم وتبني الجديد وتقلل من مستوي الانسولين والسكر، وتزيد من مستوي هرمون النمو عند المستويات المناسبة لنمو الخلية والتي هي أدري بها. إن ايقاظ الأتوفاجي بالصيام يؤدي إلي تحسين وظائف الكبد والبنكرياس والخلايا المناعية. الأتوفاجي هو نظام غير مدفوع الأجر Non Profit يجدد الخلايا ويحسن من وظيفة المخ لأنه يزيل كل التراكمات العالقة عليه فيزيد من ذاكرة الانسان التي كادت أن تطمرها النفايات المتراكمة فوقها طوال العام. الصيام وايقاظ الأتوفاجي ببساطة شديد هو اتاحة الفرصة للخلية لاستخدام حقها في إعادة ترتيب بيتها من الداخل بنفسها وبالطريقة التي بُرمجت وُخلقت من أجلها بعيدا عن أيادي الآخرين التي قد تعبث بمقدراتها وتتسبب في ضررها ولو بنية العلاج.
الصيام شهر واحد في العام هو علاج للروح بالتخلص من النفايات النفسية، وهو علاج للجسد بالتخلص من النفايات البيولوجية. وعندما تصفو النفس ويصفو الجسد ويتجمل ويتجدد تتطهر الروح التي لا تسعد ولا ترتاح إلا في جسد سليم ونظيف من كل نفايات.
سبحانك اللهم ما كتبت علينا فرض إلا وكان وراءه أسباب نفسية وعلمية سواء أدركنا نفعها في وقتنا أو جهلناه وفهمتها الأجيال التالية ولو بعد حين.
والحمد لله رب العالمين أن رزقنا القدرة على الصيام وعلي فهم فلسفة شهر رمضان.
مع خالص تحياتي
ا.د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا
وكاتب في الصحافة العلمية وروائي
#محمد_لبيب_سالم_مقالات
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات