"لو كان التطور معتمدا على حدوث الطفرات وتراكمها عبر ملايين السنين، لكان الأحرى بالخلية ألا تسمح بوجود إنزيمات لمراجعة وتصحيح الأخطاء الجينية"
طالما سمعت عن نظرية التطور لداروين وأنا طالب في الثانوية، ورغم أني درستها كمقرر في كلية العلوم، ورغم أني درست في الماجستير تخصص التشريح المقارن للفقاريات المعني بمقارنة الحيوانات من الناحية التشريحية والذي يلعب دورا مهما في التطور، إلا أني لم ألم الإلمام الكامل الواعي بهذه النظرية. ومثلي مثل كل ماما بالله وبالخلق الموجه المذكور في الكتب السماوية، كنا ونحن طلاب دائما ما ننفر من هذه النظرية عند نقاشها أو سماعها للسمعة السيئة التي نالتها في الأوساط الأكاديمية في العالم العربي والإسلامي بسبب المبدأ الأول من هذه النظرية الخاص بالنشوء والذي فهمه الناس بسطحية شديدة على أن الإنسان أصله قرد، وهو الأمر الذي ينافي إيماننا بالخلق المباشر لبني الإنسان من الطين وبيد الله سبحانه وتعالى.
وبسبب حُبي الشديد للبيولوجيا الخلوية والجزيئية وللدراسات البيولوجية المقارنة، فقد خصصت جزءًا من وقتي في السنوات الماضية الأخيرة لقراءة العديد من الكتب وسماع العديد من اللقاءات والمحاضرات والندوات التي تتحدث عن التطور سواء كانت تتفق أو تختلف مع مبادئها الثلاث. وبعد أن هضمت العديد من هذه المعلومات بمراجعها، قررت أن أكتب مقالًا عن التصميم الذكي والتطور، وهي النظرية التي يحاول أن يقدمها مجموعة من العلماء في أمريكا لمناهضة مبدأ النشوء المتوالي في نظرية التطور لداروين، والتي كنت قد قرأت عنها حديثا وألهمتني.
وبعد أن نشرت هذا المقال، فوجئت بتفاعل كبير من القراء مع ملاحظة أن الكثير منهم لم يكن يعرف الكثير عن هذا الاتجاه الجديد (التصميم الذكي) الذي يتوافق مع الاعتقاد بالخلق الموجه (الغائي) الذي يتفق مع المعتقد الديني للخلق المباشر للإنسان بيد الله. كما أني لاحظت أيضًا أن معظم القراء لا يعلم الكثير عن تفاصيل نظرية التطور لداروين وظروف صياغتها ثم تطورها من فرضية إلى نظرية، ثم المراحل المختلفة التي مرت بها هذه النظرية خاصة بعد اكتشاف الكروموسومات في 1900 علي يد العالم الأمريكي هنري توماس مورجان ثم اكتشاف الجينات في 1910 علي يد العالم ... ثم بعد الانتهاء من مشروع الجينوم في 2003.
ولذلك، وللشعور بالمسئولية العلمية كعالم في مجال البيولوجيا، قررت أن أقدم على تأليف كتاب بنظرة تأملية شخصية عن نظرية التطور، ولكن اعتمادا على معلومات ومراجع علمية برؤية علمية منبثقة من فلسفة العلوم. ورأيت أن النشر تباعا أجزاء من هذا الكتاب. وسأبدأ هنا بهذا الجزء وهو عبارة عن مقدمة.
وسأبدأ هذا الجزء بهذا التساؤل: إذا كنت أنت الخالق فما هو الأسهل لك: أن تخلق السيارة (أو الساعة) بمكوناتها مرة واحدة كل مكون حسب وظيفته وبترتيب وتتابع مسبق، أم تصنع محرك السيارة (أو عقارب الساعة مثلا) أولا ثم تتركه ليتطور إلى باقي أجزاء السيارة؟
أما إذا كنت أنت المخلوق ووجدت خلقا دقيقا على غرار مثال "الساعة التي وجدها أحدهم في الصحراء"، فبماذا تفسر وجود آلاف الساعات المتنوعة في نفس الوقت، ما هو الأسهل لك، أن تعتقد أن الساعة كانت تروسا ثم تطورت إلى ساعة، أم أن أحد ما خلقها الساعة من البداية بغرض وظيفة محددة، على غرار السيارة والخلية؟
وبناء على هذه الأسئلة الأولية، تتوالى الأسئلة المتعلقة:
كيف نفسر وجود خريطة جينية وبروتينية مستقبلية مكوده في الجنين وتضح معاملها كلما كبر وتطور وكأن الكائن الحي تم ضغطه ملايين المرات في صورة جنين، خاصة بعد أن كشفت هذه الثورة البيولوجية عن ملايين من الوظائف الذكية للبروتينات والجينات والسكريات والدهون مع تغيرات نوعية على حسب الخلية. فمن وراء هذا الوعي الجديد الذي تم إطلاق مصطلح "الوعي الخلوي" عليه.
وكيف نفسر العلاقات التكافلية والطفيلية بين الكائنات! فلماذا لم ينجح الطفيل في التحرر من الكائن المتطفل عليه، ثم أين وكيف عاش الطفيل والحيوان التكافلي قبل خلق المتكفل والمتطفل عليه وهو أساسي لبقائه. ومن الذي أوحي للحيوان المنوي أن يغير من الشكل والوظيفة لكي يتهيأ للمنافسة في جسم الأنثى، من أخبره بأن دوره ليس في الذكر، بل في الأنثى.
ومن أخبر وأرشد الخلايا المناعية أن تدور من مكان لآخر لكي تدافع عن الجسم ومن علمها بروتوكول التفرقة بين الذات والغريب ومن تنفيذ كتالوج دقيق في الدفاع المتشابك والمنظم والوقتي والمكاني في مهاجمة الجسم الغريب. وما ينطبق على الخلايا المناعية ينطبق على خلايا الدم الحمراء والهرمونات والنواقل العصبية. ومن الذي أرشد خلايا الدم الحمراء بعدم مغادرة الأوعية الدموية على عكس خلايا الدم البيضاء التي لا بد وأن تهاجر من الأوعية الدموية إلى الأنسجة الأخرى ثم تعود إلي الدم مرة أخري.
كل هذه الأسئلة تجعل العقل البشري يطرح العديد من الأسئلة المتعلقة بخلق الكائنات الحية بأجهزتها، وأعضائها، وأنسجتها، وخلاياها بهذا التصميم الدقيق المحكم والتكنولوجيا المتقدمة من مواد أولية ليس بها حياة، تكنولوجيا لم يتوصل العلماء لفك كامل شفرتها، ومن الذي خلق المواد الأولية. إنه الخلق الموجه بالتصميم الذكي الذي خلق كل كائن لوظيفة محددة في بيئة محددة. فلمصلحة من أن تقرر الطبيعة (كما يطلق عليها الملحدون وهي غير معرفة لهم) إلى اللجوء إلى الخلق التتابعي ليأخذ كل هذا الوقت، ولماذا لا تلجأ هذه الطبيعة إلى الخلق الموجه طبقا للزمان والمكان والغرض حتى تتجنب الأخطاء الكبرى التي من المتوقع أن تحدث على مدار الزمن الطويل.
رغم أن عدد النظريات في مجال علوم الحياة قليل جدًا مقارنة بالعديد من النظريات في مجال الفيزياء والكيمياء والرياضيات، إلا أن هناك نظريات مشهورة في مجال البيولوجيا مثل نظرية الخلية ونظرية التطور. ورغم أهمية نظرية الخلية، إلا أن نظرية التطور لداروين هي الأكثر انتشارًا على الإطلاق حتى إذا ما قورنت بالنظريات في المجالات الأخرى.
فما هو التطور، وهل نحتاج لدراسة التطور، وما هي الخلائق التي نستطيع أن نرى فيها التطور؟ وهل التفكير في التطور حلال أم حرام، وهل يجب تدريس التطور في المقررات الدراسية؟ وما هي المادة العلمية التي يمكن الاتفاق عليها في مقرر التطور؟ وإذا ما تعرضت للنقاش مع غير متدين في نظرية التطور فماذا سيكون موقفك، هل ستظهر رفضك التام، أم موافقتك التامة، أم موافقة على بعض النقاط ورفض بعض النقاط الأخرى؟
كل هذه الأسئلة وغيرها قد تتبادر إلى ذهن أحدنا سواء كان متخصصًا أم لا بغض النظر عن العمر، والجنس، والمولد، واللغة، والديانة، ولو بدون الافصاح عنها. أسئلة قد يتفق الجميع في الإجابة على معظمها، ولكن قد يختلف البعض في الإجابة على بعضها. ودراسة التطور ليست مهمة فقط لاكتساب المعرفة التي نستطيع من خلالها مناقشة ومجادلة الذين يؤمنون بنظرية التطور، بل الأهم هو حث العقل على التفكر والتدبر والتأمل في خلق الله الذي حثنا عليه القرآن في أكثر من ١٦٦ آية وخاصة الآية التي يدعونا فيها الله إلى السير في الأرض لندرك كيف نشأ الخلق.
وتطلق نظرية التطور على اسم العالم الإنجليزي "تشالرز داروين" الذي كان له الفضل في صياغة هذه النظرية بناء على المشاهدات والملاحظات التي سجلها بنفسه على مدار خمس سنوات وهو يبحر على متن سفينة بيجل الإنجليزية والتي جمع فيها آلاف العينات الحية والمحنطة من النباتات والحيوانات والحفريات من أمريكا الجنوبية.
تتلخص نظرية التطور لداروين في نقاط أربعة هي: الارتقاء، النشوء، البقاء للأقوى، والانتخاب الطبيعي. وينقسم التطور لنوعين هما:
- التطور الكبير (Macroevolution) الذي يعني التغيّر في الصفات المورفولوجية والجينية مما يتسبب في الانتقال من نوع إلى نوع آخر عبر سلسلة طويلة من التغيرات الطفيفة في فترات زمنية هائلة، ويُعتقد حدوثه خلال ملايين السنين.
- أمَّا التطور الصغير (Microevolution)فهو التغيّر على مستوى النوع الواحد نفسه، كتطوير كائن حي لمقاومة نحو جسم غريب، أو تغيير لونا لجلد، أو تغيير في حجم عضو معين من الجسم، أو نحو ذلك.
ففي عام 1859م وبعد تردّد كبير، نشر داروين كتابه (أصل الأنواع) الذي حاجج فيه على تطوّر جميع الكائنات الحيّة من خلية بسيطة ازدادت تعقيدًا مع مرور الزمن، لكن داروين لم يكن جريئًا في التصريح بتطور الإنسان، وظهر في الكتاب عدم يقينية داروين في مسألة تطوّر الإنسان خصوصًا أنه لم يتحدث عنها طوال الكتاب، بل أنه حاول تطبيق آلية الانتخاب الطبيعي على الإنسان، ولكنه لم يستطع، فدوّن في مذكّراته: (ولكن الإنسان.. الإنسان الرائع. استثناء لذلك). ولكن بعد فترة من الرصد والنظر اختمرت أفكار داروين فنشر في عام 1871م كتابه (انحدار الإنسان) الذي أكّد فيه على انحدار الإنسان من سلف مشترك مع كائنات حية أخرى، مثله كمثل جميع الأنواع، وهي الفكرة التي عارضها الكثير من العلماء حتى أولئك أكثرهم حماسةً للنظرية. فلقد انتقده عالم النبات "آسا جراي" في هارفارد، وصديق داروين القديم "تشارلز ليل"، بل أن أقسى نقد وُجه له كان بواسطة صديقه "ألفرد والاس" الذي شارك داروين في أول ورقة بحثية للتعريف بالانتخاب الطبيعي أصلًا،
وهذا النقد الشديد لداروين يرجع إلى أن جوهر الاختلاف بين الخلقين التطوريين لم يكن في الخصائص الجسمانية للإنسان فحسب وإنما في قدراته العقلية والشعورية وحسّه الديني والجمالي ووعيه الذاتي ونحو ذلك، وهي الخصائص التي أرجعها داروين كليةً إلى الانتخاب الطبيعي دون التفرقة بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية، مما كان له تأثيرات خطيرة، كما يوضح ذلك عالم الحفريات بجامعة هارفارد، "ستيفن جاي جولد"، قائلًا "إن علم الأحياء الدارويني قد نزع منا منزلة المخلوقات المثالية المصنوعة على نمط الإله".
فهل كنا سنسمع عن نظرية التطور لو لم يُقدر للشاب "تشارلز داروين" أن ينضم إلى فريق سفينة بيجل! من يدري، لعلنا لم نكن نسمع شيئا عن نظرية بهذا الاسم على الإطلاق، أو من يدري فقد يشاء القدر لشخص آخر يأتي بعد داروين ويهتم بالتنوع البيولوجي ويحوله إلى نظرية كما فعل داروين. ولكنى أظن أن داروين، بسماته الشخصية وشغفه الكبير في دراسة الكائنات الحية، سير له القدر هذه الرحلة لكي يقوم بهذا الدور التاريخيّ الذي زلزل العالم بدون قصد من داروين نفسه. والذي يزيد من ظني هذا هو عدم مجيء عالم بيولوجي مثل داروين ليفعل مثل ما فعله رغم كل هذه الاكتشافات الكبري على مستوى النبات والحيوان والإنسان.
ومن خلال قراءاتي لمبدأ النشوء والارتقاء لنظرية التطور (وهو أكثر المبادئ جدلا) دائما ما تثور في عقلي الأسئلة الآتية آملًا أن يأخذها القارئ على محمل الافتراض والتقريب ليس إلا. ماذا لو أتيحت لك كل أسباب الخلق للكائنات الحية ووضعت أمامك، وأعطيت الحرية الكاملة في استخدامها، وطُلب منك أن تخلق الإنسان والكائنات الحية من نبات وحيوان المهمة له، فما هي الآلية المضمونة والآمنة التي سوف تستخدمها لخلق الإنسان والنبات والحيوان؟
قد يكون اختيارك الأول أن تقوم بخلق الإنسان من خلال تصميم التشريح المناسب للقيام بالوظائف المناسبة له بنوعية الذكر والأنثى لكي يتم ذلك في وقت قصير وأمام عينيك للتأكد أن الجنسين يستطيعا التزاوج مع بعضهما البعض وقادران على تكوين أجيال جديدة بأنفسهم.
وقد يكون اختيارك الثاني أن تخلق خلية واحدة في البداية ثم تترك هذه الخلية لكي تتحول أولًا في خلال ملايين السنين إلى حيوانات ونباتات بدائية ثم تتركها تتحول خلال ملايين من السنين الأخرى إلى حيوانات متقدمة ثم تترك الأخيرة لتتحول في النهاية إلى إنسان بنوعيه الذكر والأنثى.
وبعيدا عن نظرية التطور وبعيدا عن الأديان، هل ستختار الاستراتيجية الأولي أم الثانية ولماذا؟
الإجابة على هذه الأسئلة بالتجربة العلمية تبدو صعبة ومعقدة، خاصة لو اخترت الإستراتيجية الثانية لأنك ستحتاج في البداية إلى تصميم التكنولوجيا اللازمة التي تمكنك من صُنع الخلية من مادتها الأولية وهي الأحماض الأمينية اللازمة لصناعة البروتينات وكذلك النيوكليتيدات اللازمة لصناعة الأحماض النووية في الكروموسومات، الأمر الذي بالتأكيد سوف يحتاج إلى ملايين أخري من السنين في حالة ضمان الظروف المناخية المناسبة.
بالطبع لو كنت أنا هذا الشخص، لاخترت الإستراتيجية الأولى وهي القيام أولًا بخلق الأنواع المختلفة من أنواع النباتات والحيوانات التي تتناسب مع كل البيئات التي سوف يعيش فيها الإنسان الذي سوف أخلقه - بعد تمام خلق النبات والحيوان - وذلك بتصميم التشريح المناسب لكل الوظائف، وخاصة، وظيفة التزاوج، والتناسل. والخطوة التالية التي سوف أقوم بها هي خلق الإنسان بجنسيه الذكر والأنثى بالتشريح المناسب والتكاملي بينهما وخاصة الجهاز التناسلي المسؤول عن التزاوج وتكوين الأجيال مع الحرص على خلق الشهوة والرغبة المُحركة لحدوث التزاوج.
نعم، سوف أختار هذه الإستراتيجية الممنهجة والتي تضمن خلق كل الخلائق بطريقة موازية وليس متتالية حتى أرى كل شيء أمامي ولا أتركه للصدفة البحتة والعشوائية التي قد تؤدي إلى ظهور عيوب كبيرة في الخلائق. فمن أين سوف تتعلم الخلية الأولى كل هذه البرمجة المعقدة لتعطي من جسدها وجينومها الصغير جدا كحيوان وحيد الخلية، كل هذا التنوع، فمرة حيوان متعدد الخلايا، ومرة حيوان لافقاري بأنواعه من حشرات ومفصليات ورخويات وغيرها، ومرة حيوان فقاري بأنواعه من أسماك وبرمائيات وزواحف وطيور وثدييات، وكل له أنواعه المنبثقة منه. من يضمن كل هذا التنوع الخلوي والجزيئي المعقد والذكي جدا والمتناسق جدا على مستوي الزمان والمكان والتفاعلات البيوكيميائية التي تحدث بهذه الدقة والتجانس عبر ملايين السنين، وخلال بيئة معقدة وغير مستقرة، والتي قد لا تسمح بعيش الخلية الأولي نفسها.
نعم، إنها لمخاطرة كبيرة أن أقوم بذلك وأمامي الفرصة كاملة لكي أخلق كل الكائنات مرة واحدة أو على مراحل على أن يُخلق كل نوع بتركيب خاص يقوم بوظيفة خاصة في بيئته الخاصة. كما أن الطفرات غير المستحبة التي سوف تحدث للخلية الأولى قد تبقي وتمرض الخلية أو تحولها إلى خلية مشوهة. فما الذي يجعلني كرجل حكيم عاقل أن أميل إلى الخلق العشوائي الذي يأخذ ملايين من السنين في بيئة غير مضمونة، بالطبع اختيار غير موفق وغير اقتصادي ومهدر للوقت والمجهود وبلا فائدة.
فما بالنا أن الخالق هنا هو الله سبحانه وتعالي، هو الطبيعة التي يتحدث عنها الماديون، هو الروح التي يتحدث عنها الميتافيزيقيون، هو الخالق الذي يتحدث عنه المؤمنون وينكره الملحدون. وإني لأتعجب من الذين يؤمنون بالتطور الأكبر Macroevolutionبغض النظر عن إيمانهم بوجود خالق، ما هو الأكثر منطقيًا، أن تخلق الطبيعة كل هذه الخلائق بالصدفة وعشوائية الطفرات ومن مجرد خلية واحدة، أم أن تخلق الطبيعة كل خلق بهيئته التي تتوافق مع وظيفته وبيئته مع ترك الفرصة له بعد ذلك ليتطور طبقا لقوانين الوراثة وتأثير البيئة من خلال التطور الأصغر Microevolution.
وفي هذا الصدد أستطيع أن أعطي تشبيها للتقريب، هل لو أراد رجل أعمال أن يبني مصنعًا للغزل والنسيج، وطلب من فريق من المهندسين أن يصمموا هذا المصنع بالآلات المطلوبة لصناعة الغزل من ناحية وصناعة النسيج من ناحية أخرى. هل سيبدأ الفريق بصناعة "ترس" لأحد الماكينات ثم يترك هذا الترس ليتطور من تلقاء نفسه إلى ماكينة صغيرة للغزل وماكينة صغيرة أخرى للنسيج. ثم يترك كلا منهما فترة أخرى لكي يتطورا إلى ماكينة أكبر للغزل وأخرى للنسيج ثم إلى ماكينات أكبر وهكذا حتى يمتلأ المصنع بالماكينات والمعدات اللازمة لبدء العمل وتشغيل المصنع.
بالطبع لو تم عرض هذه الخطة على رجل الأعمال فلن يوافق، فما الذي يجعله ينفذ إستراتيجية كهذه مكلفة للوقت والمجهود والمال وغير مضمونة بالمرة وهو قادر على التعاقد مع من يستطيع أن يُصنع الماكينات كلها مرة واحدة ولو على مراحل، ماكينات الغزل أولًا ثم ماكينات النسيج بعد ذلك. هذا هو المنطقي والمقبول في عالم الصناعة والاقتصاد، الصناعة الموجهة بغاية محددة يتم فيها تصنيع الماكينات بمواصفات محددة للقيام بأشغال محددة معروفة مسبًقا. وليس هناك مانع أبدا بعد ذلك أن يجدد صاحب المصنع الآلات ويطورها كلما تطلب الأمر ليضمن التنافسية كلما تغيرت البيئة العلمية والتجارية والصناعية.
ذلك هو تصوري الشخصي لمبدأ النشوء والارتقاء لنظرية التطور. فمع أن النظرية ككل ترتكز على مشاهدات قوية من البيئة إلى أن هذا المبدأ بعينه مثار جدل بين الدروانين والخلقيين. وبعيدًا عن العقائد والديانات، هناك العديد من الأسئلة الجوهرية الأخرى التي تتبادر إلى ذِهن القارئ المحلل لهذه النظرية.
وعلى افتراض صدق فرضية حدوث التطور بين الأنواع وأن الانسان محصلة مجموعة من التطورات بدأت بحمض أميني نتج عن تجمع ذرات للكربون والهيدروجين والأوكسجين والنيتروجين التحق بهم الكبريت والفوسفور وصولا في سلسلة التطور للإنسان، فمن الذي كان وراء خلق الخلية الأولى ومادتها الأولى، بل من الذي خلق الكون كله، ولماذا لم قام هذا الخالق باتخاذ الطريق الصعب والوعر والمحاط بكل الأسباب العشوائية وغير المتوقعة. بديلا عن الطريق الأسهل والأضمن.
وما يعضد من ايماني بمعتقد "الخلق الموجه" ونظرية "التصميم الذكي" للخالق هو عدم استطاعة العلماء من إعادة الخلية إلى حالتها الأولي بعد تفكيكها إلى مكوناتها الأصلية من أحماض نووية، وأمينية، ودهنية، وسكريات وغيرها من العناصر والعضويات بالخلية مثل الميتوكوندريا، وأجسام جولجي، والشبكة الاندوبلازمية وغيرها. فلو قمنا بتفكيك الخلية وفصل كل جزء من هذه الجزاء بمعزل عن الاخر ثم مزجناهم سويا تحت أفضل الظروف فلا نحصل على خلية حية كما كان حالها قبل التفكيك. فماذا يعني هذا سوي أن هناك بعد ميتافيزيقي غير معلوم وراء جعل هذه المكونات حية في صورتها الأولي. فلو كان الأمر كما يزعم معتقدي "التطور الماكرو", لكان من الأسهل على العلماء في عصر التكنولوجيا الحيوية تفكيك خلية بكتيريا ثم اعادة تركيبها بعد إضافة المزيد من الجينات لتحويلها إلى كائن آخر أكثر تطورا ولو إلى حيوان الأميبا، ولكنه الخلق الموجه من الله لكي يقوم كل، صغُر أو كبُر، بدوره.
نعم، لماذا يقوم بخلق خلية حية ثم يتركها لتتشكل عبر ملايين السنين إلى كل هذه المخلوقات؟ لماذا لم يتخذ الطريق الأسهل والأضمن في خلق الكائنات الحية دفعة واحدة أو حتى على دفعات وخلق كل كائن حي بالتركيب والوظيفة والشكل النهائي طبقًا لدوره في الحياة مع اعطاءه الفرصة للتطور على مستوي "المايكرو" على حسب حاجته وبالقدر الذي يحتاجه للحفاظ على وظيفته وشكله الذي خُلق به من البداية. ولماذا لا يفكر الخالق بطريقة ذكية واقتصادية ومستدامة ويلجأ إلى المخاطرة باهظة التكاليف من مجهود ووقت مع احتمالية الفشل.
ولماذا مازلنا نرى حولنا كل هذا العدد من القرود والأسود والنمور والفيلة وغيرها من الثدييات وحتى الخلايا وحيدة الخلية التي كما تزعم النظرية هي أصل الإنسان، فلماذا لم تتطور وتوقف بها الحال وهي قاب قوسين أو أدنى تشريحيا وجينيًا أن تتطور إلى بشر. ولماذا لم نر كائنا حيا عبارة عن نصف حيوان (أو أزيد أو أقل) من كائن أقل تطورا وباقي الجسد من كائن أكثر تطورا كأحد المراحل التي من المتفرد أن تحدث اوثان حدوث التحول التدريجي من مراحل التطور من نوع الماكرو. وكيف نفسر كل هذا العداء بين الحيوانات المتوحشة رغم القرابة التطورية بينهم.! ولماذا توقف تطور البشر عند هذا الحد، ولم يتطور إلى نوع آخر من البشر السوبر خاصة بعد كل هذا التقدم الهائل الذي حدث خلال ٢٠٠ عامًا الأخيرة، فلماذا توقف عند جنس البشر ولم يستمر لوغاريتميا رغم تعرض الجنس البشري إلى العديد من الكوارث البيئية التي تدفعه دفعًا لكي يتطور إلى كائنات سوبر.
ولو كان الأمر كذلك لكان الإنسان الذي يزيد عمره عن ٦٠ ألف عامًا الآن تطور إلى خلق آخر أكثر تطورًا، ولكنه مازال هو نفسه ذكر وأنثى ولا جنس ثالث، ومازال يمشي على الأرض بقدمين وليس بقدم واحدة، ولا يطير ولا أصبح كائنا سوبر، بالكل ما حدث هو تطور في التفكير العقلي. وكيف تفسر النظرية هذه النقلة النوعية في الشكل الجمالي للإنسان إذا ما قورن بباقي الثدييات. ومن الذي منح جينات البشر هذه القدرة الفنية لتوظيف بروتيناتها لإخراج هذا الشكل المنسق والتشريح الدقيق للإنسان، فهل المادة تفهم الجمال والذوق ورقي السلوك.
وطبقًا لنظرية الانتخاب الطبيعي في نظرية التطور الذي يسمح باستمرار الطفرات المفيدة ويتخلص من الطفرات الضارة من أجل التنوع، لماذا لم يستطع الجنس البشري التخلص من الطفرات الضارة التي تتسبب في حدوث السرطان بأنواعه. وكيف استطاع الإنسان الأول الذي نتج عن طفرة حدثت في القردة أن يتعامل مع بيئة والديه من القردة بطبيعتهم البيولوجية والنفسية، وما هو سلوكهم نحو نسلهم الغريب. كيف يفسر "التطور الماكرو" وجود سلوك عدائي بين الأنواع القريبة من بعضها البعض والمفترض أنها نشأت من أصل واحد مثل ما بين الأسود والنمور والكلاب وحتى القردة؟ بل كيف يفسر هذا التطور قتل أنثي بعض الحيوانات كالعقرب والنحل والعناكب للذكر من نفس النوع بعد عملية الإخصاب. وكيف تفسر النظرية وجود جنسين ذكر وأنثى في معظم الحيوانات وحتى بعض النباتات؟ فمن الذي شعر بالحاجة للآخر لكي يقوم أحدهما بتطوير نفسه طواعية إلى الجنس المقابل؟ ومن الذي علم الحيوان المنوي أن يتهيأ بهذا الشكل والكيفية - وكذلك البويضة - بنصف عدد الكروموسومات وكل في جسد مختلف؟ هل أخبرهما أحد بأنهما سيلتقيان ولا بد من الإعداد الجيني والشكلي والوظيفي.
وكيف تفسر النظرية وجود العقل والوعي وهما لا يعتمدان اعتمادا مباشرا على المخ، بل أن العقل هو الذي يتحكم في وظائف المخ بطريقة الواي فاي. وكيف تفسر النظرية وجود المشاعر وهي التي تعمل قبل عمل مثيرات المشاعر المختلفة لا سلكيًا (وكأنها تعمل بتكنولوجيا الواي فاي)، بل هى التي تتحكم في البروتينات المرتبطة بحالة المشاعر مثل الدوبامين والسيروتونين والأدرينالين والأوكسيتوسين. وكيف تفسر النظرية اللغة التي تختلف اختلافًا جوهريًا بين الكائنات، ولماذا اللغة واضحة ومتعددة فقط عند الإنسان رغم الشبه في الجينات بينه وبين الشمبانزي. وكيف تفسر النظرية قدرة العقل البشري على إدراك ومعرفة الماضي والحاضر وتوقفه عند إمكانية التنبؤ بالمستقبل القريب وعدم قدرته على معرفة المستقبل. ولماذا لم يتطور العقل البشري ليصبح قادرًا على معرفة الغيب وهو في أشد الحاجة لذلك لتجنب المخاطر رغم أن كل البشر لجأوا على مر العصور في الاجتهاد لمعرفة الغيب من خلال التنجيم.
لو كان التطور معتمدا على حدوث الطفرات وتراكمها عبر ملايين السنين، لكان الأحرى بالخلية ألا تسمح بوجود إنزيمات لمراجعة وتصحيح الأخطاء في المتتابعات الجينية التي تتسبب في حدوث طفرات أثناء الانقسام وخاصة الجنسي، ولكن كل الخلايا الحية بها هذه الإنزيمات. لو كانت نظرية التطور واقعة بسب الطفرات أو تداخل وتبادل الجينات، لكان العبور الجيني الذي يحدث في جينات الخلايا الجنسية عند كل انقسام وراء ظهور كائنات بشرية بصفات أخرى لا نعرفها كمًا ولا كيفًا، ولكنه الخلق الموجه للبيولوجيا الجزيئية من الخالق الحكيم لوظائف خلقه.
لكي يحدث تطور على مستوي الصفات لا بد من حدوث طفرات عديدة ومتعاقبة ومتنوعة في الكيف والكم في جينات الخلايا الجنسية فقط حتى تنتقل إلى الأجيال المتعاقبة، أما الطفرات التي تحدث في الخلايا الجسدية فتفنى بفناء صاحبها. فعلي سبيل المثال يحتاج الإنزيم الواحد إلى ٧ طفرات عشوائية في الخلايا الجنسية لكي يتطور إلى إنزيم آخر، الأمر الذي يحتاج إلى ١٠ وأمامه ٣٠ صفر من الأجيال أي أطول من عمر الكون، فطبقًا لنظرية "التطور الماكرو", كم من الطفرات والأجيال يحتاجها الكائن الواحد لكي يتطور إلى كائن آخر. بالطبع، هذا لا يمنع أن الطفرات تحدث بالفعل، ولكن هناك توازن طبيعي وآليات كثيرة داخل الخلية تعمل على إصلاح العيوب التي تحدث في الجينات وتلافي حدوث الطفرات أولا بأول حتى لا تتسبب إنتاج بروتينات غير طبيعية وبالتالي صفات أخرى، كما نوهنا أعلاه من وجود انزيمات بكل الخلايا خاصة بمراجعة منتجات كل مراحل تكوين البروتينات وأخري تقوم بتصحيح الأخطاء.
وفي هذا الصدد لا بد وأن نذكر توصل العلماء إلى إنتاج نوع من انزيم Subtilisin ، وهو أشد كفاءة في احداث تحلل وذوبان بروتين اللبن "كازيين"، وقد حصلوا على جائزة نوبل في الكيمياء عام ٢٠١٨ بسبب هذا الاكتشاف الكبير. ولكنهم توصلوا بعدها إلى طريقة للحصول على النوع الأكثر نشاطا منه من خلال احداث عدد من الطفرات المهولة، والتي تم اختزال مدة حدوثها إلى أسابيع في المعمل بدلاً من أن تأخذ مليارات من السنين كما هو مقترح أن تحدث طبيعيا مما يدل على أن الطفرات مهما تعددت وتكررت فإنها لن تكون مسئولة عن أحداث تغير في النوع وتطور من كائن إلى آخر، بل تظل محدودة تحت سقف تطور في النوع نفسه فقط.
إنه الخلق الموجه والتصميم الذكي الذي برمج كل خلية لتعمل بكفاءة على مستواها الفردي ومع الخلايا الأخرى على مستوي الأنسجة الوحدة أو المختلفة. فعلي سبيل المثال، يحتوي المخ على ١٠٠ مليار خلية عصبية تتلامس عند ١٠٠ مليار موقع بتعقيد منظم ومذهل يحدث فيها ٥٠ ألف تفاعل بيوكيميائية بين البروتينات في الثانية الواحدة مطلوبة لكي تقوم الخلية بوظائفها بدون أوامر مكتوبة ولا مختومة والخلايا تنفذ فورًا. إنه ذكاء الخلايا التي منحها الخالق. ولكي تنشط البروتينات أو تتوقف عن عملها بعد أدائها لابد وأن يحدث لها عملية فسفرة وهي إضافة مجموعة فوسفات إلى حمض أميني ما في بروتين ما. وعندما يصبح البروتين مفسفرا يتغير شكل البروتين ويصبح نشطًا فيقوم بوظيفته. وتعتمد درجة نشاط البروتين على درجة الفسفرة. إنه ذكاء البروتينات.
كما أن شيخوخة الخلايا تعملنا أن الخلايا ورائها تصميم ذكي للغاية. فالخلايا لا تشيخ بالصدفة، بل تم تصميم إنزيم (بروتين) التيليموريز ليكون مسؤول عن ثبات طول كل طرف من طرفي الحمض النووي DNA بكل خلية، والذي عندما يَقْصُرْ مع كل انقسام يُسَرّع من شيخوخة الخلية. فمن علم هذا الإنزيم هذه الوظيفة الدقيقة والمعقدة والذكية على قدر كل مرحلة بحيث يزداد نشاطه في مراحل الطفولة والصبا والشباب ثم يبدأ نشاطه يقل في الكهولة والشيخوخة. وعلى عكس الخلايا السليمة، تقوم الخلايا السرطانية بإفراز حزمة من البروتينات لزيادة نشاط التليموريز بها لزيادة عمرها وانتشارها ومنع موتها، ولمنع فسفرة بروتينات الخلايا المناعية لشل حركتها. إنها حروب البروتينات لصالح خبث السرطان.
وكذلك الميكروبات بما فيها الفيروسات وتفاعلها مع خلايا الجسم يعتمد على تصميم ذكي وهندسة ذكية من الصعب تقبل فكرة حدوثها بالصدفة أو العشوائية. ففي وجود ميكروب، تتفاعل الخلايا المناعية سويًا (١٣-١٥ نوع) وتظهر فورًا على سطحها بروتينات تنشطها وتقويها وتحركها، وفور إنهاء المهمة بقتل الميكروب تظهر بروتينات أخرى لتهدئ الخلايا لتعود إلى طبيعتها، إنه ذكاء البروتينات. وهذه المستقبلات (البروتينات) التي تستخدمها الخلايا عموما والخلايا المناعية خاصة مصممة بذكاء شديد فهي مكونة من ٣ أجزاء، جزء خارج غشاء الخلية وجزء داخل غشائها وجزء في سيتوبلازم الخلية وكل جزء له وظيفة يسلمها للجزء التالي لكي تتحرك الخلية وتخرج من الوعاء الدموي إلى النسيج للتعامل مع الميكروب. إنه ذكاء البروتينات.
كما أنه أثناء الأورام والعدوى والإلتهابات المزمنة تقوم الخلايا المريضة بإفراز حزمة من البروتينات لشل حركة ونشاط الخلايا المناعية وتحول بعضها إلى خلايا مثبطة للمناعة فتستمر العدوي وتهرب الأورام بخبث ومكر شديد. إنه ذكاءً الأمراض بالتلاعب بالبروتينات. كما أن الفيروسات مثل فيروس كورونا والذي لا يزيد حجمه عن ١٢٥ نانومتر قد صمم بذكاء كبير، فرغم صغر حجمه إلا أنه يعلم تمامًا هدفه وكيف يتعامل معه ويستفيد منه بأحداث معقدة جدًا، ولكن مرتبة بدقة. السبب وراء هذا التصميم الذكي هو ضمان ارتباط اشواك (بروتينات) الفيروس بمستقبلات (بروتينات) محددة دون غيرها على خلايا الجسم، ومن ثم حدوث الاختراق الذكي للخلايا ومن ثم حدوث المرض. فمن منح الفيروس هذا الذكاء الكبير!
مهما تشابه التركيب الجيني للإنسان مع كائنات وأنواع أخرى لدرجة تتخطى ٩٩.٩٩ ٪ إلا أن كل نوع من الكائنات الحية يبقي مميزاً بخلقه المتفرد. بل، يدل تشابه الجينوم البشري مع غيره من الأنواع الحية على وحدة الخالق لا وحدة الخلق. ولا يعني أن الجينوم الواسع الكبير والمتنوع للإنسان يجعله قادرا على التأقلم مع بيئته وصالحا لكل الأزمان لا لأن يكون نتاج تطور من حمض أميني أو بكتيريا أو قرد وإنما هو خلق خاص، وكذلك جميع الكائنات.
هذا وتأخذنا كل الشواهد العلمية تدل على احتمالية أكبر لحدوث عملية التطور الصغرى Microevolution في نفس النوع وليس عملية التطور الكبري Macroevolution والشاهد عليها وجود أنواع Strainsعديدة لنفس نوع البكتريا والفيروسات، بل والسحالي والثعابين وغيرها. والتطور المايكرو (الدقيق) موجود على مستوى الجنس الواحد، أما الماكرو الذي يؤدي إلى تحويل الكائن من جنس إلى جنس آخر فهو من الغيبيات التي صنعها وصدقها العقل البشري قبل عصر البيولوجيا الخلوية والجزيئية.
كل هذا الأسئلة وغيرها مشروعة وعدم الإجابة عليها تجعل من مبدأ التطور الأكبر (الماكرو) مجرد فرضية تحتاج إلى الاختبار عمليًا لكي يتم اثباتها والاعتراف بها كما حدث مع نظرية النسبية لأينشتاين وافتراضه وجود ثقوب سوداء في الفضاء والتي تم إثباتها بالفعل في عام ٢٠١٩م عندما أعلنت وكالة ناسا الأمريكية عن اكتشاف أول ثقب أسود في الفضاء فتحولت الفرضية إلى نظرية وخرجت منها قوانينها ومعادلتها. وكذلك النظرية الذرية للعالم الأمريكي روزفلت الذي افترض في البداية تكوين كل جزيئات المواد من ذرات تدور فيها الإلكترونات حول النيوترونات والبروتونات في نواة الذرة. وبالفعل تم إثبات ذلك عمليًا وتحولت الفرضية إلى نظرية خرجت منها القوانين المعروفة.
معظم هذه الأسئلة تتعلق بالمبدأ الأول من نظرية التطور وهو النشوء أو أصل الخلق من خلية واحدة تكونت تحت ظروف كيميائية وفيزيائية (كما يدعي الدروانيون) وتطوره من نوع إلى نوع. ومع أن تحويل المادة غير العضوية إلى مادة عضوية ليس من السهل، إلا أننا لو تخطينا هذا التحدي واستطاع العلماء تكوين أحماض أمينية وقواعد نيتروجينية ونيوكليوتيدات، فكيف يعبأ كل ذلك سويًا ليعطي خلية حية قادرة على التضاعف والنمو والتمثيل الغذائي والتنفس والإخراج والحركة، وهي الصفات الذكية الخمس المطلوبة للحياة واستمرارها من جيل إلى جيل. أضف إلى ذلك تصميم بروتينات لتقوم بوظيفة الدفاع ضد الميكروبات مثل الفيروسات والسموم والملوثات البيئية، فذلك يستعدي حزمة أخرى من البروتينات الذكية.
وحتى لو سلمنا بأن تحضير كل تلك المكونات العضوية المطلوبة للخلية من مواد غير عضوية ممكنًا، وسلمنا بأننا قادرون على تعبئتها داخل غشاء خلوي ولو صناعي من فوسفوليبيد، فكيف تتشكل هذه المكونات على هيئة نواة، وميتوكوندريا، وأجسام جولجي، وشبكة إندوبلازمية، وليسوسومات، وسينتريوم، وماكيروتيوبيول، وغشاء نووي ونوية.
وكيف يلتف شريطي الدنا سويا ومن يحدد متي يتم فكهما أثناء الانقسام عند مناطق معينة، وبسرعة معينة، وتصحيح الأخطاء إن وجدت، بل من الذي سوف يشرح للإنزيمات المطلوبة لتضاعف الدنا عملها الدقيق، ومن هذا الذي سوف يُعلم الدنا الفرق بين النسخ والتضاعف، ومن هذا الذي سوف يشرح لجزيء "دنا" كيف يقوم بنسخ جينات محددة منه لتكوين "رنا" محددة مطلوبة لتكوين بروتينات محددة.
ومن الذي سيشرح للريبوزومات أن تقوم بعملها في نفس الوقت الذي يتم فيه نسخ الجينات لغزل البروتين المطلوب بذكاء شديد، ومن الذي يشرح للميتوكوندريا أيضا في نفس التوقيت تكوين الطاقة بذكاء شديد، وكذلك الشبكة الاندوبلازمية لتعمل على تشكيل البروتين ونقله، وهكذا باقي مكونات الخلية التي تعمل في صمت وذكاء شديد.
إذًا الأمر ليس في توفير المكونات ولا تعبئتها داخل غشاء خلوي صناعي، ولكن التحدي الكبير والذي يكمن فيه السر الأعظم هو كيف نجعل هذه المكونات تتحدث سويًا في تناغم وتكامل وذكاء منقطع النظير. كيف نحُث كل مكون أن يعمل كنانو مصنع متخصص لا يكل ولا يمل ولا يخطأ. كيف ندفع هده المكونات من صورتها الجامدة إلى صورتها الحية المملوءة بالحركة بقوانين الكيمياء الحيوية.
إذا قبلنا بنظرية النشأة من أصل واحد وهو الخلية الحية، ستظل هناك حلقة مفقودة بين عملية التكوين والتعبئة وبين ذكاء التصميم وسوبر ذكاء وحكمة وظيفة هذه المواد.
إن السر، في حدود قناعتي وإيماني، يكمن في روح الخلية، الروح التي بثها الله فيها لتتحول من مجرد مجموعة مركبة من المواد العضوية إلى مصنع آلي كبير مكون من مئات من المصانع النانوية لإنتاج وتخزين وتسويق كل ما تحتاجه الخلية لتحيا وتستمر بطاقة نظيفة ومستدامة. إن السر في الخلق ليس مادة الخلق، ولكن في روح الخالق التي بثها في الجزيئات.
هذه الاسئلة أو التساؤلات والاستفسارات هي من عقل معجب بالنظرية من حيث المبدأ، ولكنه عقل له تحفظات على مبدأ النشوء والارتقاء من ناحية لأن العقل يستخدم المنطق في الفهم والتحليل، ومن ناحية أخرى يميل إلى الإيمان بالله في الغيبات بدلا من الإيمان بالغيب بغيب آخر. أضف إلى ذلك ظهور نظرية "التصميم الذكي" التي قد تحل الخلاف القائم بين الخلقين والتطورين التي اراها مقنعة علميا وفلسفيا لتحل محل مبدأ النشوء والارتقاء.
التطور سمة الوجود، فنحن نراه في تحول نبتة صغيرة إلى شجرة عظيمة، وفي تحول خلية صغيرة الي جنين كامل، وفي تحول طفل رضيع إلى رجل كبير، وفي تطور أفكارنا ومعتقداتنا وفي علومنا. فالتطور هو سر الحياة، ولكنه التطور الصغير داخل كل منا وداخل كل كائن حي مع بقاء كل كائن ببصمته المتفردة دون التحول إلى كائن آخر.
ا.د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا – مصر
وعضو اتحاد كتاب مصر
التعليقات