"إن خط منحني النتاج الفكري لمجتمع ما يشبه رسم القلب بما فيه من انقباض وانبساط. فاذا حاد المنحني عن مساره فهذا اعلان صريح بمرض المجتمع"


التغيير الفكري بين الذكاء الإجتماعي والذكاء الإصناعي 42923438086254250



الثقافة والفكر هما الغذاء الروحي والعقلي للشعوب. ولا تنهض أي أمة إلا إذا تغذي شعبها علي فكر راق وثقافي واعية تستطيع أن تبني أجيالا قوية علي أساس العلم والمعرفة. ولكن أدوات الفكر والثقافة أصبحت متعددة ومتباينة وفعالة لدرجة قد تعيد تشكيل الموروثات والعادات المجتمعية رويدا رويدا دون أن يشعر أحد إلا في نهاية المطاف. ولأن التغيير سنة الوجود ولأن عملية التغيير الفكري والثقافي من أكثر عمليات التغيير الديناميكية في السرعة والقوة، فمن السهولة بمكان أن يتغير الناس فكريا وثقافيا شريطة أن يكون المؤثر قويا. وقوة التأثير ليس لها علاقة بنزاهة المؤثر ولكنها تعتمد على فلسفته وهدفه من التأثير. ولأن التغيير المجتمعي من الممكن أن يكون حميدا أو خبيثا، فلا بد من وضع مقياس عاما وخاصا لهذا التغيير وأدواته ومراقبته أولا بأول لضمان استقرار المجتمع وتطوره تطور حميد.

فإذا كانت فلسفة المؤثر خبيثة وتهدف إلى تسطيح الفكر أي الهبوط به من المستوي العقلي إلى المستوي الحيواني أو الشهواني، فما على المؤثر إلا بإخراج سلسلة من المؤثرات التي تبث الفكر الهزلي والسطحي بطريقة ممنهجة بخطة قصيرة الأجل تأخذ أيامًا أو شهورا وخطة طويلة الأمد قد تستغرق سنوات طوال. وهنا يستهدف المؤثر طبقات محددة من المجتمع وهي التي لا تستطيع التمييز بين الغث والثمين، بل تميل دائما بحكم فكرها وثقافتها إلى الغث لتفرح به وتلهوا دون وعي. وعادة ما يكون المؤثر هنا من يبحث عن افشاء اللهو إما لجلب المال بأسلوب استهلاكي سهل وسريع أو كحرب ثقافية غير معلنة من عدو لئيم. وعادة ما تكون نسبة نجاح هذا النوع من المؤثرات قويا وسريعا مما يجعل الفكر أو الثقافة الجديدة تنتشر في هذه الطبقات المجتمعية كانتشار النار في الهشيم.

أما إذا كانت فلسفة المؤثر حميدة وهي رفع الحالة الفكرية والثقافية بهدف تطوير المجتمع والنهوض به حضاريا ليكون على قدم وساق مع الشعوب المتقدمة بل ومنافستها، فما على المؤثر الا أن يحقن المجتمع بسلسلة من البرامج والمبادرات الراقية التي تستهدف كل طبقات المجتمع دفعة واحدة كل علي حسب مستواه مع التركيز على الطبقة المثقفة لتأخذ بزمام الأمور. وعادة ما يكون المؤثر هنا هو الدولة والمؤسسات المختلفة وخاصة المنوط بها التعليم والفن والأدب والثقافة والإعلام المرئي والمسموع. وعادة ما يحتاج هذا الهدف السامي الي خطط عمل مؤسسية راقية وتنسيق مؤسسي عالي المستوي. ولكن عادة ما يكون وراء هذا الدور المؤسسي أفراد يطرحون المبادرات ويؤمنون بها من خلال خطط قصيرة وطويلة الأجل. وعادة ما تكون نسبة نجاح هذا النوع من المؤثرات ضعيفا وبطيئا إلا إذا كان مركزا وممنهجا ومرتبطا بمبادرات قومية تتبناها القيادة السياسية نفسها.

وإذا كانت أساليب التغيير في الزمن الماضي ما قبل تكنولوجيا المعلومات يأخذ وقتا طويلا وتكلفة عالية ومجهودا كبيرا، فإن اساليب التغيير في زمن التواصل الاجتماعي أصبحت سهلة وسريعة وفعالة. وفي نفس الوقت كان التأثير في الماضي قادرا على التركيز على طبقات مجتمعية بعينها لأن كل طبقة كان لها طرق مختلفة في استقبال المؤثرات. أما حاليا في عصر التواصل الاجتماعي فمن الصعوبة بمكان استهداف طبقة بمعزل عن الطبقة الأخرى في المجتمع، لأن كل الطبقات اصبحت تتلقي المؤثرات تقريبا من مصادر واحدة. كما أن المجتمع أصبح فاعلا هو الآخر وايس مفعولا به على عكس الزمن الماضي.

التغيير الفكري بين الذكاء الإجتماعي والذكاء الإصناعي 858335083080685.8


ورغم صعوبة ضمان التأثير الأفقي في المجتمعات الحالية بصورة متشابهة بين الطبقات المختلفة بالمجتمع، إلا أن التأثير الرأسي أصبح أكثر سهولة وتأثيرا وإن كان من المتوقع أن يكون تأثيرا متباينا في نوعيته. ولكن من الممكن بالطبع التعامل مع المؤثرات التكنولوجية بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء التي من الممكن من خلالها تطبيق أساليب تغيير سمات الشخصية، تماما مثل الطب الشخصي الذي يعالج كل مريض ببروتوكول علاجي مختلف عن المريض الآخر طبقا لحالته الصحية التي يتم التوصل اليها ببرامج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وبالمثل من الممكن تطبيق التغيير الشخصي بتكنولوجيا انترنت الاشياء. وهذا ما يحدث على أرض الواقع بالفعل دون أن ندري ونحن نتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي.

ولأن القدرة على التغيير الفكري المجتمعي والعالمي في عصر تكنولوجيا انترنت الأشياء أصبحت أكثر ديناميكية بدرجة مخيفة ومقلقة ليس للأفراد ولكن للدول, فلا بد من الدول الذكية من وضع خطط معلنة وغير معلنة ليس فقط في محاربة التغيير الفكري السلبي للمجتمع، سواء من مصادر داخلية أو خارجية، وسواء عن قصد أو عن جهل ولكن ايضا في وضع خطط دائمة ومتغيرة في قياس مستويات الفكر المجتمعي والعمل على تطويره ودفعه إلي الاتجاه الذي يخدم المجتمع ككل مع الأخذ في الاعتبار التوازن بين العادات والتقاليد وتطور المجتمع.

وكلمتي الأخيرة في هذا المضمار والمحك المهم هو لزومية تحليل وقياس ما يطرحه الاعلام والفن بصورة دورية ورقابية لضمان عدم حيود اجيال المجتمع وشرودها عن القيم المجتمعية وجذب المجتمع دائما إلى الأصول والقيم الحضارية كلما حاد عن قصد أو عن لا مبالاة.

ان بناء الانسان في عصر تكنولوجيا انترنت الأشياء لهو أصعب وأهم من التكنولوجيا نفسها. فإذا فشل الإنسان في استخدام التكنولوجيا بفكر حضاري تصبح تكون التكنولوجيا وباءا عليه آجلا أو عاجلا.

مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة - كلية العلوم - جامعة طنطا - مصر

عضو اتحاد كتاب مصر

[email protected]



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة