"تنهد قدري بعد أن استجمع قواه، ونظر إلى والده في خجل متسائلا: هل تؤمن يا والدي الحبيب في الأحلام وإمكانية تحويلها إلى حقائق"


بعد ساعة ونصف من زيارة أمه بعد غياب شهر في مدينته البعيدة بسبب أعماله التي دائما ما يصفها بالعبء الثقيل الذي لا ينتهي، هم بالانصراف فقد تأخر والده عن الحضور فهو لابد وأن يذهب الآن فقد انتصف الليل والسماء تسقط وابلًا من الأمطار وكأنها غاضبة من الأرض، التي تبدو في الخارج لا حول ولها ولا قوة في هذه القرية المسكينة. وعندما أمسك بيدي أمه ليقبلها ويقبل رأسها ويذهب، نظرت إليه بعينيها التي تخبئ فيهما سنوات العمر السبعين دون شكوى "ليتك تبيت الليلة عندنا اليوم يا قدري، فالمطر غزير وأخاف عليك، وفرصة لتجلس مع أبيك وتحاوره كما تفعل دائما، وفرصة لي لتكون في حضن أمك ولو ليلة واحدة". كانت الحاجة شكرية تبتسم بعينيها وشفتيها بشوق وحنين تناشد فيها طفولته وصباه عندما كان لا يفارقها وتتمني عليه أن يبقي، فهي مجرد ليلة.


وكعادته، قَبّلَ يديها بحنان بالغ وقَبّلَ رأسها بحبٌ عميق وكأنه يقبل مقام أحد أولياء الله الصالحين، كما كان يفعل مع أمه وهو صغير عندما كانا يزور معها أحد الأضرحة العتيقة التي كان يوشوش نفسه دائما أنها فارغة من أي جسد أو روح سوي صندوق النذور. اعتذر قدري لأمّه "لديّ أعمال كثيرًا غدًا يا أمي، ولا أستطيع تأجيلها ولا بُدَ أن أُجهز أوراقي بمكتبي اليوم استعدادًا للغد.


نظرت إليه الحاجة شكرية مرة أخرى بعينيها الدامعتين المبتسمتين "قدري حبيبي، يمكن أن تبيت معي وتسامرني أنا وأبيك حتى النوم ثم تصحوا مبكرًا قبل عمل بساعة أو ساعتين أو حتى الفجر، فقط كن معنا اليوم".


زاد قدري في قبلات يديها ورأسها كرشوة على سماحها له بالاستئذان، رغم أنه كان قد أخذ القرار بالذهاب، ولكن فقط احترامًا لوقوف أمه بين يديه ورغبتها الشديدة في مكوثه الليلة في أحضانها.


استسلمت الحاجة شكرية لقبلات قدري ورشوته الحنونة وقَبَلَتُه بين عينيه وهي تسحب كفيها من بين يديه في حسرة كتمتها في قلبها فكم كانت تتمنى بقاءه اليوم في حضنها الذي اشتاق له كثيرًا رغم عمره الأربعين، وهمست بصوت الأم الحنون "كما تريد قدري، صاحبتك السلامة، وسوف أنقل سلاماتك وقبلاتك لأبيك".


من فضلك أمي، بلغي سلامتي وأشواقي لأبي ففعلا كنت أتمنى رؤيته، ولكن الوقت تأخر جدًا وعليا أن أذهب في الحال، خرجت الكلمات من فم قدري لوالدته وكأنه يستعجل القرار بالذهاب قبل أن يحضر والده ويصبح لا مجال للذهاب إلا بعد ساعة على الأقل من النقاش المفتوح والذي يشعر بأنه لا طاقة به على الأقل اليوم.

أومأت الحاجة شكرية برأسها لقدري وبابتسامة الأم الحنون وهي تودعه عند الباب، ابتسامة تجمعت فيها كل ابتسامات الأمهات الطيبات المغلوبات على أمرهن أمام أبنائهن، على راحتك يا قدري يا حبيبي، فأنت فعلًا قَدَري من يومك، ولا يقدر عليك إلا والدك، أما أنا فدائما تقدر عليّ بكلامك المعسول وقبلاتك الحنونة".


فتح قدري الباب ليُقَبل يد والدته لآخر مرة ليركب سيارته من أمام المنزل بسرعة قبل أن يغرق في مطر السماء. ولكن، ما أن فتح الباب حتى غرق في خجله عندما فوجئ بوالده يفتح الباب وجلبابه قد أغرقته المياه. وقف قدري أمام ملامح وجه والده الجادة والمملوءة بحكمة السنين وتعب العمر وآلاف التساؤلات التي دائما ما يُمطر بها قدري في كل زيارة، تساؤلات في الحياة ومعني وجودنا وفائدتنا على وجه الأرض، وماذا يجب أن نترك فيها قبل رحيلنا منها بسلام، أسئلة كلها فلسفية وعملية رغم أن والده لم يقرأ في حياته كتابًا واحدًا غير التي سمعها من قدري وهو صغير عندما كان ينصت وقدري يذاكر كتب العلوم، والتاريخ، والفلسفة والجغرافيا، والاجتماع.


أسرع قدري نحو والده، وانحنى يسلم عليه ويقبل يديه في احترام بالغ، حتى تبلل تمامًا من جلباب والده. كيف حالك أبى، كنت ذاهب الآن واستأذنت من الحاجة وتركت لك معها سلاماتي وقبلاتي لأن الوقت تأخر ولديَ أعمال مهمة للغاية غدًا ولا بد من الإعداد لها الليلة.


قبله والده على جبينه، ولكنه لم يتحدث ودخل البيت في هدوء عجيب.


لم يملك قدري إلا الدخول في صمت وراء الحاج صابر ولا يدري ماذا يفعل، فهيبة والده وما قدمه من تضحيات واهتمام بالغ لقدري حتى يتخرج ويعمل بواسطة من معارفه الكبار حتى أصبح رجلًا مهما ذو منصب كبير بأحد أهم القطاعات المؤثرة بالدولة، وقبل كل شيء، فهو والده وولىّ نعمته الذي يفتخر به أينما ذهب.

رحبت الحاجة شكرية بزوجها الحاج صابر وخلعت من على كتفيه الشال الثقيل ومشت بجواره حتى أخذ مقعده المفضل في غرفة المعيشة، ثم نظرت إلى ابنها قدري وهي تضحك في نفسها حتى لا يشعر والده ويعلم بما حدث بينها وبين قدري من حوار بأن يبقي، ضحكت في نفسها وهي تنظر إلى قدري وكأنها تشمت فيها فقد جاء من لا تستطيع أن تهرب منه.


ابتسم قدري لأمه فقد قرأ ما يدور في عقلها. وبعد لحظات من الصمت الذي مر على قدري كالدهر، فهو يحترم ويقدر والده جدًا ولا يجرؤ على عصيانه رغم منصبه الكبير، ولكنه الآن الأمام الحاج صابر والده القوي الحبيب.


وأخيرًا، تحركت شفتا الحاج صابر، كيف حالك يا قدري وكيف حال العمل والناس، وهل هناك جديد تثلج صدري به ويروي شوقي، فقد ظمئت إلى سماع أخبار تجعلني أفتخر ببلدي فوق كل البلاد الآن وليس الغد، وفي جميع المجالات وليس مجال واحد، بلدي التي أزرع قلبي وعقلي في ترابها كل يوم وأرويهما بحبي وإخلاصي وعملي! أجبني يا ولدي قدري، فقد سألتك نفس السؤال أثناء آخر زيارة لك منذ أكثر من شهر، وقلت إن شاء الله يا والدي ستسمع أخبارًا رائعة في الزيارة القادمة، وها أراك كنت تنوي الذهاب دون أن تراني، وكأنك تهرب من الإجابة رغم أنك لم تهرب أبدًا من أي سؤال وأنت تلميذ.


ضحكت الحاجة شكرية وقلبها يزغرد من الفرحة، فقد بدأت المناقشات الحامية بين قدري وأبيه، وهذا معناه أن قدري لن يذهب على الأقل الآن، ثم قالت بفرحة، أطيلوا في النقاش والحوار كما تشاؤون حتى أنهى العشاء ومعه المشروبات الساخنة.


تبادل قدري نظرات العتاب مع والدته، ولكنها غمزت له بعينيها وجرت بفرحتها نحو المطبخ تاركة حلبة النقاش لزوجها الحاج صابر الذي جاء في وقته وبين قرة عينيها الوحيد وقدرها الجميل والذي لا يملك إلا أن يرضخ لأبيه.


جلس قدري أمام والده كالصبي الصغير أمام شيخه الكبير في الكُتاب، الشيخ العالم بكل شيء والمُصر على معرفة كل شيء، والباحث عن عمل كل شيء حتى آخر نفس في حياته. أب واعٍ رغم عدم تعليمه، أب كله تفاؤل رغم أن عمره تعدى الثمانين، رجل عملي رغم ما حققه من إنجازات وبدايات من الصفر.


جلس قدري أمام والده محاولًا استجماع قواه العقلية في الرد، فإذا كان قدري عمليًا ومنطقيًا بسبب تعليمه ودراساته وعمله وشخصيته التي ورثها عن والده، فوالده أكثر منه وأشجع في البوح بكل ما يريد نقده ولو أتعب وأغضب غيره، فهو رجل لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يهمه إلا الحق. رجل لا يتمني إلا تقدم بلده رغم أنه لم يكن أبدًا موظفًا حكوميًا، ولم يقبض جنيهًا واحدًا من عمل حكومي، بل كان دخله وما زال من أرضه وما ينتجه منها حتى وقت قريب عندما بدأ في تأجيرها والاكتفاء بالإشراف عليها بسبب تقدمه في العمر وعدم وجود قدري.


لم يدر قدري بماذا يرد على والده، فهو يعرف تمامًا ماذا يدور في ذهنه، وماذا ينتظر من إجابة، ويعرف أنها غير موجودة على الأقل لا في الوقت الحاضر ولا الوقت القريب، هو يعلم أنه مازال يبحث عن إجابات مستقبلية على مستوى الوطن وليس على مستوى قريته التي تئن من كثرة المشاكل. تمنى قدري لو سأله والده عن أحد احتياجات القرية من رصف طريق أو بناء مدرسة أو مستشفى أو حتى بناء جامع، تمنى لو سأله على أي من هذه الطلبات لأجابه كما يفعل مع وجهاء القرية، ولكن وجاهة والده مختلفة، فهو رجل دولة، بل رجل وطن، بل رجل تقدمي من الطراز الأول، وليس رج طلبات فردية، كم يفتخر قدري بوالده فهذا النوع من الرجال قليل.


تنهد قدري وهو يهمس في نفسه، آه يا حاج صابر لو كنت لست بوالدي لكان من السهل الرد عليك بعبارات طنانة ومستقبلية ووعود جذابة، ولكنك والدي الحاج صابر الذي مازال يحلم بقيادة دولته للعالم علميًا وثقافيًا وفنيًا، خاصة بعد ما حكيت لي عن الحلم – أو كما تسميه رؤية - والذي أخبرتني به مرارًا وتكرارًا بأنك رأيت بنفسك قبطان الدولة شخصيًا وهو يركب سفينة في عرض البحر ولا يأبه بأمواج البحر العاتية التي كانت تلاطم السفينة وتتلاعب بها يمنة ويسارًا، وكيف أن هذا القبطان ظلّ ثابتًا في مكانه وأنت أيضا ثابت معه ومعك الحاجة شكرية وأنا وكثير من رجال القرية يقفون بجوار القبطان يلبون نداءه وينفذون أوامره حتى استقرت السفينة بحمولتها على الشاطئ دون أن تُصاب بأي أذى. كم هو حلم جميل، بل نبوءة مبشرة يا حاج صابر.

تنهد قدري بعد أن استجمع قواه، ونظر إلى والده في خجل متسائلا: هل تؤمن يا والدي الحبيب في الأحلام وإمكانية تحويلها إلى حقائق.


ابتسم الحاج صابر لابنه ابتسامة المضطر لمجاراة من يريد أن يهرب من إجابة السؤال بسؤال، ثم سأله: بالتأكيد يا قدري، تمامًا كما حلمت لك وأنت في الثانوية في رؤية بأنك سوف تترقي حتى تصبح من رجالات الدولة المهمين، وها أنت ذا رجلًا مهمًا، فلماذا تشكك في أحلامي يا دكتور، قالها الحاج صابر وهو يبتسم لقدري حتى يزيل عنه توتر الإجابة، فهو يحفظ الملامح النفسية لوجه ابنه الوحيد كما يحفظ اسمه.


ولكن أحلام الوطن الكبرى يا أبى أمنيات كبيرة وليست مجرد أحلام لشخص ضعيف مثلي، رد قدري بتأثر كبير وكأنه يستعطف ذكاء والده الفطري بأن يتركه في حاله.


ولكن الحاج صابر لم يمهل ابنه الوحيد وأعاد عليه سؤاله الوحيد مرة أخرى، هل هناك جديد يا دكتور قدري من خطط لتحقيق رؤيتي، أنت المسؤول أمامي يا بُني حتى ألقى الله، مسئول عن تحقيق ولو جانب واحد من أمنيتي، وأراك تستطيع تحقيقها من مكانتك، وإلا فما قيمة الزمان والمكان، وقيمة كل ما نقوم بعمله كل يوم، وقيمة الترقي بل وما قيمة التعليم الذي تتعلموه ليل نهار، وقيمة كل هذه الكتب التي تكتبونها، وكل المقالات التي تتغنوا بها، وكل اللقاءات والاجتماعات التي تنتفخون بها، بل وما قيمة يا بني كل تلك الجامعات ومراكز البحوث والشهادات والدروع والتقديرات، ما قيمة كل ذلك يا قدري إذا لم تدفعنا ولو عشرة أعوام مرةً واحدة إلى الأمام. لقد طال الانتظار يا قدري، أجبني، لماذا مازلنا نحاول، لماذا لا ننتقل إلى حلبة المنافسة بدلًا من الجلوس على مقاعد المتفرجين. ماذا هناك يمنعنا والناس حولي يظنون بأن عقولهم هي

أذكي عقول في العالم.


شعر قدري بصعوبة شديدة في الرد على كل هذه الاستجوابات من والده، فقد شعر أنه يُسأل أمام مجلس الشعب، ولكن بدون مستندات. شعر بأن والده اليوم غير كل مرة، يراه الآن في حماس أحمُس، وشجاعة وذكاء رمسيس، وحكمة الملك مينا، وطموح الملك خوفو، بل يراه كل هؤلاء الملوك وقد بُعثوا جميعًا في ملامح وجه أبيه.


ولكن يا والدي الحبيب، طموحات الدول تأخذ وقتًا طويلًا وصبرًا حتى تتحقق، ونحن ما زلنا على الطريق، فاصبر صبرًا جميلًا وقليلًا يا حاج صابر. وهنا، قالها صابر وهو يضع ابتسامة ابن مُطيع على شفتيه لعل والده يفيق من هذه الثورة التقدمية العارمة ويهدأ، فوالده اليوم حقا ليس ككل يوم، هل يا ترى بسبب جرعة أخبار العالم المهموم والحزين والمنكسر مقابل أخبار العالم الذي يملك كل التكنولوجيا ويوظفها بظلم، أم بسبب ترهلات أفكار الناس ولهثهم وراء المادة واللذة ولو كان فيها خدش وطعن للحياء.


نهض والده فجأة متكئًا على عصاه العتيقة صائحا وبصوت جَهوري، أنا يا إبني صابر منذ أكثر من ثمانين عامًا، صابر في كل زيارة وأنت تعيد نفس الإجابة التي حفظتها ولا أرى جديد، صابر وأنا أرى العالم هناك يندفع بقوة هائلة كل يوم ونحن مازلنا نحارب الجهل والجمود والكسل واللامبالاة والسطحية والانتهازية والعشوائية ولا نملك إلا استنكار التصرفات بالقطعة، صابر وأنا أرى الناس لا يهتمون إلا بأنفسهم ولو كان على مصلحة الوطن، عليكم أن تفعلوا شيئا يا قدري، فالممكن كثير ولا يحتاج إلا وضع المفتاح في السيارة وتشغيلها ولو كانت قديمة. أضربوا بأيدي من حديد على كل متهاون، اجعلوا كل ما نحتاجه من صناعة أيادينا، وعاقبوهم على اللامبالاة، واسألوهم الكف عن الثرثرة الفارغة وأن يقللوا من الدعوات الشكلية ويزيدوا من العمل، فما قيمة الدعوات بدون عمل، وجهد، وعرق، وتطور، وصناعة، وابتكار. افعلوها يا ولدي كما فعلها الناس هناك. افعلوها وكفى.


فوجئ قدري بكل هذه الثورة الكامنة في عقل والده، فهذه أول مرة يراه بهذا الفكر وهذا الإصرار، صحيح أنهما في كل مرة كانا يتحاوران ويناقشان سويًا حتى تنتهي ما كان يسميه قدري "ندوة الحاج صابر"، ولكن هذه المرة مختلفة وكأن والده إما أن يكون قد ضاق صبره على ما يريد، أو يكون قد مسه جِن التقدمية، أو أنه بالفعل يرى شيئا ما لا نراه.


وضع قدري راحتيه على كتف والده وهو يقبل رأسه خوفًا عليه من ثورته: اهدأ يا أبي الحبيب وسوف أشرح لك بعد قليل بعض الأمور التي على يقين أنها سوف تريح قلبك وطموحاتك، دعني أولًا أساعد الحاجة شكرية في احضار العشاء المتأخر والمشروبات الساخنة وأعود إليك وتكون قد هدأت بعض الشيء وأكون أنا مستعدًا لأخبرك برؤوس مواضيع لا يعرفها ولن يعرفها أحد غيرك.


رد الحاج صابر بهدوء مصطنع، تفضل يا قدري ومنتظرك لتناول العشاء، ولكن عليك أن تنسي ما قلته منذ قليل، فكفى كل ما قيل. وتنهد الحاج صابر وزالت الثورة من عينيه وجلس في مقعده في هدوء وكأنه قد شعر براحة كبرى بعد أن أخرج من صدره كل ما كان يريد أن يبوح به لابنه، والآن.


تنفس قدري الصعداء عندما رأى والده يجلس في هدوء وتأمل، وتركه متجهًا إلى المطبخ ليساعد أمه الحاجة شكرية، التي لا تجيد في هذه الدنيا الواسعة إلا أعمال المطبخ والدعوات للحاج صابر وقرة عينهما الدكتور قدري.


وقف قدري قليلًا في ساحة المنزل ليتأمل حديث والده العجيب، والحماسي، والمنطقي جدًا اليوم، وبدأ يفكر بجدية في كل كلمة قالها لينقلها إلى القيادة العليا حتى يكون قد حقق طلب والده على الأقل، وفكر في كل كلمة منتقاة سوف يقولها بعد قليل ليشفي غليل وطموحات الحاج صابر. فالرجل بالفعل لديه حق، ولكن لم أكن أدري أن رجل تعدي الثمانين من عمره جادٌ فيما يقول هكذا، رجل يريد الإصلاح الفوري والتقدم الكبير.


ظل قدري واقفًا في ساحة المنزل يسأل نفسه، هل أخبره بما نفعله بسرية من تخطيط استراتيجي يجيب على كامل تساؤلاته، هو والدي نعم، وأشعر بغيرته ووطنيته نعم، ولكن كيف لي أن أشاركه أسرار الدولة.


شعر قدري بموقف صعب بين بنوته وأسرار عمله، ولكنه يريد أن يزيح ما يعكر صفو عقل والده، هذا العقل الذي له فكر خاص قلما أن يوجد. نعم، عليه أن يريحه ولو بأقل المعلومات التي تجعله مطمئنا وأن يشعر بأن المستقبل القريب سيكون كما يريد، على أن أخبره بأن كل جملة قالها هي عنوان لخطة استراتيجية. كان هذا هو قرار قدري حتى يُريح ويرتاح،


لم يقطع حبل أفكار قدري سوى نداء أمه بأن الصواني جاهزة لألذ وأجمل عشاء في الدنيا لأجمل أب وأطيب ابن.


حمل قدري عن والدته صينية العشاء وهو يشعر بنشوة تملأ صدره بقراره في أن يريح صدر والده ومن رائحة الطعام الساخن الذي ينادي بأبخرته الشهية على معدته ومعدة الحاج صابر المنتظر على أحر من الجمر. حملت الحاجة شكرية صينية المشروبات الساخنة التي يفضّلها أن يحتسيها الحاج صابر عندما يحتد النقاش مع ابنه الوحيد وقرة عينه قدري.


دخل قدري علي والده يسبق والدته بضحكته العالية وبجواره الحاجة شكرية وعلى شفتيها ابتسامة وفرحة بريئة. دخلا وهما يناديان بشغف وبفرحة على الحاج صابر بعد أن هدأ النقاش لتبدأ السهرة الجميلة، ولكن الحاج صابر لم يرد.


ظل يناديان سويًا في نَفَس واحد، ولكنّ الحاج صابر ظل صامتًا ولم يرد، حتى بعد أن تحول نداء الحاجة شكرية إلى صراخ وعويل، فقد فارقت روح الحاج صابر الحياة الصاخبة ومعها طموحاته وترك جسده لابنه وزوجته ليدفناه في مقابر الأسرة اليوم أو الغد أو حتى بعد الغد.


صرخت الحاجة شكرية وبكت بكاء السنين على فقدان رفيق عمرها، وشهق قدري وبكى كالطفل غير مصدق رحيل والده بين يديه وقد كان عقله يشع بالحماس والطموحات لبلده - وليس لنفسه - منذ دقائق.


وقف قدري أمام جسد والده في ذهول غير مصدق رحيل روح والده فجأة الآن بعد كل هذا النقاش، وكأنه كان يعلم أن حديث اليوم هو آخر حديث له، أو كأنه وصية أراد أن يسجلها قبل رحيله.


رفع قدري رأس والده على صدره ليلقي عليه نظرة الوداع ويقبل رأسه ويديه لآخر مرة. ولكنه، فوجئ وهو يرفع رأس بورقة تطبق عليها يد أبيه وكأنه كان كتبها مسبقًا وأخرجها وقت الرحيل.


فتح قدري الورقة ليرى ما بها، فإذ بها وصية بخط يده وتوقيعه "أوصيك يا بني بوالدتك كنور عينيك، وأوصيك بوطنك كنبضات قلبك، اجعل من كل شبر في وطنك علامة على الرقي والإبداع، عَمر أرضك يا ولدي بالعقول كما فعل الأجداد، لا تتركوا الوطن لمن لا يستحقه ولمن لا يؤتمن على ناسه وحضارته، الوطن غني بأولاده ولو كانوا فقراء، فالفقر فقر العمل والإنتاج والابداع".


سقطت الدموع من مقلتي قدري متأثرًا بوصية والده التي خلت من أي وصية مادية، فقد ترك كل شيء ورحل، ولكنه مازال يفكر في حلمه الكبير لوطنه حتى بعد الرحيل.


أخذ قدري أمه في حضنه يواسيها ويخفف عنها، وقرأ عليها الوصية ووعدها بتحقيق كل ما فيها مهما كانت العقبات، والتحديات، والآلام، والتضحيات.


بكت أمه بحرقة على صدر ابنها الوحيد وهي لا تفكر إلا في فراق الحاج صابر وكيف تعيش الحياة بدون رفيق العمر الذي كان يملأ عليها كل ثانية وكل ركن في الحياة.


ومرت الأيام سريعًا وحان موعد أول زيارة بعد وفاة الحاج صابر ليذهب قدري لزيارته في قبره ليقص عليه قائمة الإنجازات الخفية التي لا يعلم بها أحد سوى قدري من خلال منصبه والخطة التي يعمل عليها مع القيادات العليا. ولم يمر وقتًا طويلًا حتى بُعٍثت طموحات الحاج صابر قبل أن يُبعث هو من قبره كما كان يقول في نهاية كل ثورة من ثوراته الوطنية.


وفي الزيارة السنوية الأولى تجمع وجهاء أهل القرية حول الدكتور قدري وقدموا له طلبًا جماعيًا بتسمية أكبر وأهم شارع في القرية "شارع الحاج صابر".


تساقطت الدموع من عيني قدري فهو وحده الذي يعلم كما كانت قيمة ومقدار عقل وقلب والده الحاج صابر.

د. محمد لبيب




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة