"ومع أن الطفولة بريئة حتي تكبر، إلا أن أطفال اليوم بالرغم من أنهم أبرياء فمن الصعب وصفهم بالبراءة حتي يكبروا"
كان الله في عون قلوب وعقول أطفال هذا العصر، فقد أصبحوا تحت تأثير آلاف المؤثرات الخارجية علي عكس ما كان. فعندما كنا صغارا كانت المؤثرات البيئية الثلاث الممثلة في الناس والأشياء والتكنولوجيا المتاحة قليلة.
فعلي مستوي الناس، كانت علاقاتنا سواء الخاصة أو العامة تنحصر في الناس الذين نعرفهم في محيط الأسرة والأهل والفصل والشارع الذي نسكن فيه. وكان تأثير الأشياء ينحصر علي ما كان متاحاً تحت أيدينا آنذاك من لوح الكُتاب وكتب المدرسة ثم زد علي ذلك المكتبة العامة وجرائد اليوم والراديو لمن استطاع إلي ذلك سبيلا. ثم بعد ذلك التلفاز بقنواته الثلاث لمن حباه الله بتوفر الكهرباء في الأصل.
وكان التأثير المعلوماتي منحصر في نوع وكم المعلومات التي تتلقاها من الأستاذ في المدرسة أو الكتاب الذي نشتريه أو الجرائد أو القنوات التليفزيونية الثلاث. أما البيئة نفسها فكانت أيضا بسيطة، فقد كان الشارع هادئا ونوع وعدد السيارات قليل، وعدد القهاوي والكافيهات والمطاعم قليل جدا. وكانت المساحات الخضراء أوسع وعدد البنايات أقل. وزد علي كل ذلك أن التواصل بعيد المسافات بين الناس كان محصورا علي التليفونات السلكية لمن استطاع إلي ذلك سبيلا والتي كانت تستخدم فقط في الاتصال ولا يوجد بها أي رفاهية أخري كالتي نعرفها اليوم.
كانت كل المؤثرات البيئية الثلاث بسيطة كما ونوعا، مما يجعل المخ وإفرازات العقل عميقة وتميل إلي الوصف والتحليل والتخيل والابداع الفطري، فكانت النفس تمتلأ بكل ما تحتاجه من فكر ومشاعر وتواصل ونمو في هذه الأبعاد الثلاث. وفي نفس الوقت كانت هذه التأثيرات موضعية. بمعني أن التأثير العام لها كان ضعيفا ويأخذ وقتا طويلا ومجهودا كبيرا حتي يظهر تأثيره علي المجتمع. وبالطبع كانت هناك تحديات ومشكلات اجتماعية ولكنها كان نوعها علي قدر مستوي المؤثرات البيئية. فكانت طبيعة الشكاوي والغش والخداع والتحايل والتحرش وحتي السرقة والقتل مختلفة كثيراً عن يومنا هذا.
كان كل ذلك سببا في تشكيل البراءة في عيون وتصرفات الأطفال، بالطبع اذا ما قورن بأطفال اليوم الذين أصبحوا معرضين لآلاف المؤثرات البيئية الثلاث. فمع أن الطفولة بريئة حتي تكبر، إلا أني لا أستطيع ببساطة أن أصف أطفال اليوم بالبراءة بالرغم من أنهم أبرياء حتي يكبروا.
فالمؤثرات الثلاث البيئية من ناس وأشياء وتكنولوجيا أصبحت كثيرة ومتنوعة ومتشابة ومعقدة، والأهم من كل ذلك أنها أصبحت مفتوحة علي مصراعيها أمام الصغير والكبير سواء في المنزل أو المدرسة أو الشارع. ومع غياب دور الرقابة علي المستوي الرسمي التي كانت تراقب الإنتاج الأدبي والفني والإعلامي، بالإضافة إلي غياب الأطفال من المدارس وإتاحة التكنولوجيا اللاسلكية بكل انواعها وخاصة الموبايل للأطفال والكبار علي حدٍ سواء، فقد أصبح الأطفال أمام كم ونوع هائل من المؤثرات البيئية التي تجعلهم يتصرفون وكأنهم كبارا ليس فقط في السلوك ولكن أيضا في الفكر والأفعال سواء تم ذلك جهرا أم خُفية.
إذاً ما هو الحل للحد من هذا التأثير الذي غير جذريا في سلوك الأطفال ونظرتهم للزمن وللناس وللأشياء. هل فعلا نحتاج حلاً، باعتبار أن ذلك مشكلة لا بد من حلها وتتعارض مع ثقافتنا وموروثاتنا وديننا، أم علينا ألا نعتبرها مشكلة بالنسبة للعصر الذي نعيش فيه. الإجابة علي تساؤلي هذا قد ينبع من حال الأطفال في الدول الأخري التي تقود العالم بغض النظر عن دياناتهم.
فمن تجارب شخصية مع أطفال العالم المتقدم نلاحظ ملحوظتين أساسيتين.
الملحوظة الأولي هي استخدام التكنولوجيا المتقدمة بكل أنواعها والاستفادة منها والتسلية واللهو بها كأي أطفال في العالم. وبالطبع يؤدي ذلك كما هو متوقع إلي نمو فكري للأطفال رأسي وأفقي. رأسي علي مستوي نوع المعلومة الواحدة ومجالها العام. وأفقي علي مستوي تنوع المعلومات والمجالات المختلفة. ويتشابه أطفال هذه الدول في ذلك مع أطفالنا.
الملحوظة الثانية وهي الأهم والتي تمثل الفارق البين بين أطفالنا وأطفال هذه الدول هو استقرار نوعية وطبيعة السلوك الفردي والمجتمعي للأطفال إلي حد كبير إذا ما قورن بأطفال العهود السابقة. فلا نلاحظ هناك طفرات في سلوك هؤلاء الأطفال بالدرجة التي تؤدي إلي مشكلات مجتمعية مزمنة.
والسبب الرئيسي في ذلك هو وجود الأطفال يوم كامل في المدارس بما فيها من قواعد صارمة تنظم بل تثبط إلي حد كبير سلوك الأطفال. بالإضافة إلي دور الأسرة التربوي بالتنسيق مع المدرسة ونظام النوم المبكر الذي تتبعه هذه الدول مما لا يعطي مجالا للتسمم الفكري بعيدا عن عيون المدرسة أو الأسرة. بالإضافة إلي انتشار ثقافة القراءة الإلزامية (التي قد تصل إلي 5 كتب في الأسبوع) والتطوعية خارج المنهج للأطفال طوال مراحل التعليم الثلاث حتي الثانوية . وبالطبع فوق كل ذلك وجود مبادرات لتهيئة الأطفال سلوكيا فيرالمدارس ووجود قانون صارم لضبط السلوك في الشارع.
إذا الحل يكمن في اتباع ما تقوم به هذه الدول تجاه أطفالها والذي أراه صعب المنال بل من المستحيل تطبيقه علي الأقل في الوقت الحالي. إذا الحل لا بد أن يكون مختلفا ومناسبا للواقع الذي نعيشه. حلول تتفق مع ثقافتنا وموروثاتنا وديننا وماذا نريد من أطفالنا في سن الطفولة ومزة نريد لهم عندما يصبحوا شبابا وكهولا وشيوخا. وفي ذلك مقال آخر.
وفي هذا البيت الشهير من قصيدة كتبها الشاعر العباسي الشهير «أبو العتاهية» الذي قال فيه "فيا ليت الشباب يعود يوماً .... لأخبره بما فعل المشيب", فانا اقول بعد ما يقارب الألف عام "ليت الطفولة البريئة تعود أبدا ... لأخبرها بما فعلت فينا تكنولوجيا الزمن العجيب"
مع خالص تحياتي
ا.د. محمد لبيب سالم
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات