إذا كان الإتيان بإنسان إلى هذا الوجود لا يكاد يكلّف شيئا من عقل أو مال،

فإنّ منحه حياة محترمة –و إن كان لطالما تطلّب حدّا أدنى من الماديات- أصبح عارضة بعلوّ لا يقدر على الوثب فوقها غير جياد إصطبلات الجودة..

لم يعد هناك من شيء أو جزء سهل في هذه الحياة المعاصرة. كلّ التفاصيل تتطلّب كلّ التدابير، فالمثالية أضحت إلزامية لا رفاهية، بدءا بالشكل.

كنّا درسنا في مادّة العلوم الطبيعية بأنّ من مظاهر النّضج لدى الفتاة أنّها قد تكتسب بعض الوزن، إلّا أنّ جلّ الأزياء المعاصرة لم يعد يتقبّل هذه المورفولوجيا. فالمرأة "الستايل" و "الشيك" بالمفهوم المستجدّ هي التي تمتلك بطنا مسطّحا و خصرا ضيّقا. شكل لا يمكنها الإنتقال من شكلها إليه إلّا لو هي خرجت من دائرة التّغذي و التحرك العفوية و البسيطة إلى جحيم الريجيم و التكلفة و الحركة الشاقة المغالية. جحيم لم يسلم منه الرجل، فهو الآخر غدا شبه ملزم بالإنتساب إلى ناد من نوادي كمال الأجسام، و اتّباع نظام غذائي غنيّ بالبروتينات و الكربوهيدرات و سرط مساحيق و مكمّلات غذائية شتّى. و ليت القضية توقّفت عند هذا الحدّ، فلا الأسنان نجت و لا الشعر و لا البشرة و لا الكفّان و لا القدمان و لا المنخار و لا الحاجبان.

بدءا بالشكل فمرورا بالشهادة أو التكوين أو الوظيفة، التي أصبحت قيمة الإنسان تُحدّد وفقا لها. فأنت أهل لأن تُحترم و تُقدّر "إذا و فقط إذا" كنت صاحب مكانة تعدّها المفاهيم الجديدة مرموقة. و هو الأمر الذي دفع بالجميع إلى جنون التسابق لاكتساب لقب ما.

لم يعد هناك من يرضى بحقيقة أنّه "عادي". حياتنا اليوم أشبه بملعب نزل بساحته كلّ المتفرّجين يتدافعون و اللاعبين لصناعة مباراة هائجة مائجة، أمام مقاعد خالية..

كانت الحياة بخير عندما كان عموم الناس يحيون على أنّهم من عامة الناس، بسطاء سعداء غير معتبرين ذاك الإنتماء نقيصة..

أيّة حياة هذه التي نحياها اليوم؟ و الجميع فيها صار فنّانا، و الجميع صار كاتبا، و الجميع فيلسوف، و الجميع فيها صار متحاذقا.

صاروا كألف، و ألف كأفّ..

إنّهم يذكّروننا دوما بأنّه علينا أن نشرب ثمانية أكواب من الماء يوميا، و بأنّه علينا أن نأكل خمس حصص من الفاكهة، و نمشي نصف ساعة على الأقلّ. و أن نتعلّم الإنجليزية و الإعلام الآلي بعد أن نفرغ من الدراسة. و أن نتزوّج قبل الخامسة و العشرين و أن ننجب قبل الثّلاثين و أن نطالع ما يزيد عن الثلاثين كتابا سنويا لو كنّا نريد الإنضمام إلى صفوف المثقّفين و أن نكنّى بزبدة المجتمع..

فوصولا إلى أشكال بيوتنا و المطابخ داخلها و الصالونات و الزرابي و اللوحات و ضروب الديكورات..

و بأنّه علينا.. و بأنّه علينا.

بأنّه علينا أن نفيض عن قوالبنا و نصبح جميعا "سوبر سوبر بشر" !

كلّ شيء أمسى يضغط علينا لكي نكون أكبر دوما و نمتلك أكثر.. أمّا نحن و في قلب هذه العاصفة الآخذة للأنفاس، فإنّنا لم نعد بحاجة إلى شيء حاجتنا إلى أن نهدأ، أن نتنفّس كلّ يوم 8 أكواب من الهواء.

أن نصحّح اعتقادنا و نؤمن من جديد بأنّه لا بأس بأن نكون من نكون على بساطة كينونتنا. بأنّنا جميعا نستحقّ أن يرجع إلينا الإحترام ما دمنا نبعث به و ذلك مهما كان شكلنا أو دورنا في هذه الحياة التي تستمدّ مظهرها الفسيفسائي الرائع من اختلافنا و تباين مواقعنا.

رحمة سعيد

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رحمة سعيد

تدوينات ذات صلة