طالبة جامعية هي. جميلة كباقة من الورد، و عميقة كبحر لجيّ.

كانت تبلغ من العمر عشرين عاما، و كان أستاذا مؤقتا، و كانت قاعة المحاضرات مكان ميلاد القصة. نظرت إليه بنفس البراءة التي ننظر بها إلى الأشياء من حولنا، و لكنّه قرّر أن ينظر إليها بطريقة مختلفة.

لم تكن وقحة.. أو من ذلك الصنف من الناس الذي ليس بحاجة إلى أكثر من غمزة كي يقفز في الأحضان. كانت هناك في آخر القاعة جالسة، و ظلّت هناك. ربّما لأنّه بمثل تلك الحركة التي يتداعى لها وقار الأستاذ، فرض عليها أن تبقى في حالة فرار مستعصية، إذ هناك درسها من جهة و هناك من الجهة الأخرى رجل استعجمت على ذهنها عملية تحرير وصف دقيق لسلوكه. ففي آخر المطاف، ماذا كان يريد ذاك المتحدث بالعلم و الدين، و المُثل العليا و الفلسفة اليونانية؟ ماذا قد ينتظره شاب مثله، من فتاة حيكت أثوابها من حياء و اتّسمت أفعالها بالأدب..؟

في الحقيقة لم يكن هناك من تأويل ثان فهو لم يكن مرتبطا، و كان أستاذا و كانت مؤدّبة. أو على الأقلّ، كان ذاك التّفسير المنطقي الوحيد الذي قد يتبادر إلى ذهن سوي.

و مرّت الأيّام. بل و الشّهور.. و الأستاذ لا أقبَل، و لا أدبر. يذهب و يجيء، و يلتفت و يبتسم، و يلحق و يلاحق، أو يرسل خلفها من يلاحق.. كلّ ذلك دون أن يجسر على القيام بخطوة تعيد له مهابة الأستاذ و وسام التّقدير.

هي العيوب البشعة لبعض النّاس. ينسون في انهماكهم بتصرّف ما يخصّ أشخاص آخرين مثلما يخصّهم، بأنّ للآخرين أيضا صوتا و شعورا و تفاعلا و استجابة. لذلك، هو كان يبدو سعيدا بطوافه حول إنسانة فضّل أن يتعامل معها كما لو كانت مجرّد دمية حلوة المظهر خالية من الرّوح. أمّا هي، ففي قلب عاصفة الإعجاب التي أثار طوافه كأنّه لم يكن أمامها إلّا أن ترحّب، كي تتعلّم مع زحف الزّمن كيف تصدّق بأنّه لا يمكن له أن يكون غير طالب قلب فطالب قرب، و تتعلّم بعد زمن غير هيّن كيف تألفه.

مرّ الوقت على عجل جارفا معه قرابة السنتين .. أثبت الرّجل بعدهما بأنّه أستاذ بجدارة. لا في شيء ممّا كان يدرّسه، و لكن في قدرته على سحب قلب إلى القعر دونما أن ينبس ببنت شفة.

أو أنّه لم يكن أستاذا، إلّا لأنّها كانت مجرّد طالبة.

مجرّد طالبة منزوية في ركن قصيّ أقصى ما كانت تتمنّاه أن تستوعب دروسها و تنجح في دراستها، غير أنّ الدّرس الذي كانت تخبّئه لها الأقدار كان مختلفا.

قالت لي: "كنت أعتقد بأنّه يهبني بداية لشيء جميل، في الوقت الذي كان يهيّئ لي فيه صرف نهاية لقصّة لن تبدأ أبدا". بعد سنتين من اقحامها غصبا في شيء غريب أشبه ما يكون بالعلاقة البصرية، قرّر أخيرا أن يتلاشى كسراب مُرّ. فقد كان كلّ شيء في يده إذن، من البداية و حتّى النّهاية. قصّته هو كانت مرتّبة و الأهمّ أنّها كانت خالية من الغموض، و الأهمّ أنّها كانت خالية من الإنتظار.

هكذا، بهذه البساطة.

يدخل بلا استئذان، و يخرج بلا استئذان.. صاحب الهندام المهذّب. آخذا و هو ماض بيد طالبة أخرى، ما هي في حقيقة الأمر غير ابنة صاحب "مدجنة". مخلّفا حالة من الذهول الحادّ لدى فتاة ذنبها الوحيد أنّها أحسنت فيه الظنّ رافضة أبناء الوجهاء و مادياتهم الفخمة، لأجل وعد.. وغد.

ربّما كان الوعد مكتوبا بالدخان على الهواء.. ربّما ليس بالقصّة قدر من إلهام يستحقّ السّرد. غير أنّي أعرف المعنية شخصيا و رأيت حجم الضّرر الذي طال حياتها بعد انسحاب المعنيّ. كما أعتقد بأنّني بطريقة ما توصّلت إلى استيعاب ألمها.. فأكثر ما خضّها لم يكن انصرافه بحدّ ذاته، و لكن ذلك الشّعور بأنّه تمّ خداعها و النّصب عليها.

لا بحقّ هو موقف بائس. أن يستجديك و يستدعيك شخص ما إلى طاولة ما فإذا ما لبّيت الدّعوة وجدته لم يحضر هو. و تبقى هناك جالسا، ربّما لساعات. مشدوها، معترى دوامة من التساؤلات المنطقية التي ستبدو سخيفة للأسف في ذلك الحين و أنت هناك وحيد.

"لماذا؟".. كان هذا قلب الألم و نبضه.

قالت لي أيضا: "شعرت لوهلة بأنّ حاجتي إلى أن أفهم صارت أقوى من اعتزازي بنفسي، فراسلته و سألته بعد أن عرّفت بنفسي على أساس أنّه بعد كلّ ذاك الزّمن و الجمباز يعرفني. سألته ببساطة: "لماذا؟".

بلى معها حقّ. لماذا؟.. هي لم تكن تعرف خبايا نفسه، و لكنّه بلا شكّ لا يجهل رجاءاته. لو أنّه منذ البداية يعرف بأنّه يبحث عن مموّل لمشاريعه المستقبلية، فلماذا كلّ ذاك الإزعاج؟ كلّ ذاك الزّمن؟ كلّ ذاك الإصرار على ما ليس متأكّدا بخصوصه؟.. وحدهم الأطفال يقرعون الأبواب مطوّلا و بقوّة، فقط لأجل نشوة القهقهة التي تتملّكهم و هم يهربون بعد الفتح.

أجاب ببساطته الصّادمة التي لم تعد مدعاة للإستغراب: "من أنتِ؟".

سؤال بسؤال، و ينتهي السؤال الأول و تنتهي القصّة. و "لم يكن عليها.." و "كان عليه.." و.

و ما جدوى كلّ خوض بعد هذا.. ما دامت القلوب تقايَض، بالدجاجات و البيوض؟


رحمة سعيد

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رحمة سعيد

تدوينات ذات صلة