"و يهجر القلب من يقسو و يجفاه".. يقول الزّهراني و يقول المنطق، و لكن.
قرأت منذ مدّة غير طويلة منشورا على الفيس بوك، شعرت بأنّه –و إن كان لا يمسّ بشخصي- استفزّني كفاية. كي لا أكتفي بمجرّد التعليق أسفله، و لكن بالتفكير في التّطرق إليه كموضوع مهمّ أو حتّى خطير.
أخبرت صاحبته في مجمله بأنّها أحبّت شخصا غير أنّه تركها و مضى و أسّس لنفسه حياة مع أخرى، و رغم ذلك فهي عاجزة عن نسيانه.
كنتُ لأعتبر الأمر أقلّ خطورة لو أنّه توقّف عند هذا الوصف، و لكنّها أضافت الجملة التي فاض لها الكأس حين اعترفت بأنّ المعنيّ رحل منذ سنوات.
و كنتُ لأعدّ الأمر أقلّ خطورة لو كان متوقّفا عند هذه، على أنّه حالة خاصّة. و لكنّ أكثر من واحدة تفاعلت مع منشورها قائلة بأنّها واقعة في نفس المشكلة.
و لو أنّ القضيّة بنظري تتعدّى كونها مشكلة، فعندما يتورّط زمن بهذا الثقل، فإنّ المشكلة تغدو إشكالية عويصة.
لأوّل وهلة، يمكن لإنسان أقلّ حساسية أن يقدّم تفاسيرا جائرة نوعا ما، تحوم حول الكرامة و قلّتها و زيادتها.. إلّا أنّني لست هنا كي أطلّ على أوجاع النّاس من شرفة عالية.
إنّ آلية تشكّل مشاعر تجاه شخص معيّن أمر معقّد. إذ أنّ نفس الشخص في ظروف مغايرة قد لا يكون له نفس الأثر على الإحساس. كما أنّك قد تجد نفسك مهتمّا بشخص ما لأجل صفات محدّدة، فإذا صادفت نفس الصّفات في شخص آخر فستجد بأنّه لم يعد لديها نفس الوقع عليك. ما أريد قوله هو أن الطريقة التي تنشأ بها أحاسيس الودّ كثيرا ما تكون عشوائية، و كلّ ما هو عشوائي تصعب السيطرة عليه.. من هنا تنبثق جلّ الأزمات التي يتسبّب فيها الحبّ.
استمرار تدفّق المشاعر بعد اختفاء الطّرف الآخر يصبح أمرا سيئا، و سيّئا جدّا. و ينتقل من خانة الهيام و مرادفاته الجميلة، إلى خانة الإضطرابات السيكولوجية التي يمسي المصاب بها كالعالق داخل متاهة.. متاهة -لحسن الحظّ- من ورق. لأنّك لا تظلّ أسير حاجة لشخص استغنى عنك، إلّا بموافقة منك. ربّما أنت لا تعلم ذلك، أو أنّك لا تمنح هذه الموافقة بطريقة مباشرة.. من سوى أنّه عليك أن تثق تمام الثّقة بأنّ عقلك ملك لك، و كلّ ما يقيم بداخله من أفكار و رغبات لا يبقى على قيد الحياة إلّا لأنّك راغب فيه، سواء اعترفت بذلك أم لم تفعل.
هناك اتّصال غيرقابل للإنفصال بين عقولنا و قلوبنا. لذلك فإنّ تضرّر القلب سيدخل العقل في حالة من الكآبة. كآبة لن تعمّر شيئا يُذكر عندما نصحّح مفاهيمنا و قناعاتنا حول احتياجاتنا الأساسية و الفرعية. ففي ميدان الحبّ المصحوب بالشّغف، لا وجود –مطلقا- لشخص غير قابل للتّعويض أو التّكرار. بحيث أنّ كلّ من يخرج من حياتك ما يفعل في الحقيقة غير فسح المجال أمام تجربة أخرى لعلّها تكون أثرى بكثير. و كلّ ما يتطلّبه الأمر أن يبقى الإنسان منفتحا بمشاعره و أفكاره على الإحتمالات التّالية، غير متقوقع على نفسه.
لا تسمح لشيء في الحياة بأن يخرجك من المجال الأبيض، و يغصبك على التأرجح داخل مجال حدوده السّواد و الرّمادية..
الحبّ سيف ذو حدّيّن و طريق ذو اتّجاهين. طاقة تدفعنا إلى الأمام عندما نصبّه في الآنية المناسبة، أو طاقة تسحبنا إلى الخلف لمّا نفرغه في الأحواض الخاطئة..
لا تأذن للعشوائية بأن تغلب المنطق و لا لصوت الضّعف بأن يسكت الحكمة داخلك، ففي كثير من الأحيان لا يكون لتمسّكك بشخص ما من سبب وجيه إلّا طاعة لأهواء بلهاء، في الوقت الذي قد يكون فيه من حولك كنوز آدمية جاهزة للإستهلاك و مفعمة بالمعادن و الفيتامينات و أنت مصرّ على تجاهلها فقط لأنّ عبثية ما في رأسك قرّرت بأنّها ليست ما تريد.. فللحبّ أن يقلب صاحبه طفلا صغيرا مدلّلا يريد قطعة حلوى و يرفض حصّة خضار، غير مكترث بأضرار الحلوى و لا ملتفت إلى فوائد الخضراوات.
الرّاحلون طواعية قد قالوا كلّ شيء، و بيّنوا موقفهم منّا جيّدا. فلا ترهق نفسك سدى بمحاولات اختلاق الأعذار الواهية لرحيلهم. من مضى قد مضى، و قد مضى لأنّه لا يعدّك ضروريا و لا ثانويا.. فهو ببساطة لا يعدّك شيئا يستحقّ شيئا.
أمّا لو صادف و كنّا من الجهة المقابلة أي محطّ الإعجاب و الإهتمام، فإنّ مسؤوليّتنا أمام الله سبحانه أوّلا ثمّ أمام ضمائرنا تقتضي لو كان لنا قلب بأن لا نستغلّ هذا الموقف استغلالا خاليا من النّبل. بأن لا نوهم النّاس بما لا نحمله لهم، فالقلب المأخوذ برجفة الإنبهار كالعصفور الصّغير الواقع من العشّ، سيدهسه اللئيم و يعيده برفق إلى أمّه الكريم.
و أهمّ من كلّ فصائل الشّعور التي قد تعترينا ذهابا و إيابا، فإنّ تقديرنا لذواتنا يبقى من الأولويات التي لا بدّ علينا من الإعتناء بها عناية خاصّة. فالإنسان الذي لا يعرف كيف يحبّ نفسه ستختلط عليه حتما كيفية التعامل السويّة مع هذا الشعور المربك.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
Amira Hisham, مرحبا بكِ في أيّ وقت
اريد التواصل معك ان امكن