يا آخر الحكايات وبداياتها يا أول الذكريات وآخرها يا أول الدروب ونهايتها!
وسنعود كغريبين تُغلق الأبواب في وجهيْنا نتعانق وحدنا في ظلمات المدينة تحت أمطارها وبردها وسماءها المُكتظة بالغيوم، سنبكي كيف وصل بنا الحال لنكون غريبين في بلدة ضمَّت أحزاننا وربتت على أكتاف ضيقتنا بكت لنا حينًا وضحكت معنا أحيانًا أخرى…
كيف يصبح الشخص الذي تربَّى في مكان غريب عنه وعن أهله؟ كيف تذبل الزهرة في أرضها ومن جذورها التي تغذَّت عليها؟ كيف تموت الأشجار بفأسٍ من نفس اليد التي سقتها يومًا؟ كيف تموت الأرض عطشًا من نفس السماء التي سقتها مطرًا ذات يوم؟ كيف يُمسي الشخص الذي غُدر من نفس الحضن الذي آواه وسنده وربت على أحزانه؟ كيف يُصبح الشخص غريبًا عن شخصٍ ما؟ بل أخبرني كيف يُمسي الشخص غريبًا عن مدينة نام على أرضها؟ مسَح دموعه بكفيَّها وقبَّل جبينها، دافع عنها بدمه وروحه وفداها بكل ما يملك؟
احتضن خوفها مرَّة وذاق مُرَّها مئة مرَّة واستمتع بحلاوتها ألف مرَّة، ضمَّها بين ذراعيه خوفًا عليها من الضياع من بين يديه ثم فرَّ هاربًا منها دون أسباب، دون أن يُبدي سببًا لفعلته وبات يحنُّ لها في كل يوم وكأنَّها خِتام أيامه الأحب لنفسه، بات يذكرها في كل حديث يخوضه بينه وبين نفسه وحتى بين الناس أجمعين، يعود لها في كل مرَّة كأنَّها آخر الممرات، آخر الانتصارات التي خاضها في أشد أيَّامه رعبًا وخوفًا!
يعود لها وكأنَّها أمه الحنون وحضنه الولود وخوفه الأدهى والأمرّ، يعود إليها ليختبئ من مخاوف الدنيا، جحره الذي يتمنى ان يعيش فيه بعيدًا كل البعد عن الناس، منفاه وملاذه الذي يخشى اقتحامه من أحدٍ ما، يخشى أن تأخذها الدنيا منه ويبقى دون ملجأ، دون منفى أو بيت يأوي إليه حين يشتدُّ به ظلام روحه، يخاف أن يعود في ليلة يكتمل فيها القمر ولا يجد يد ذلك الباب تلمس روحه كما كانت لمسته تفعل في كل مرَّة! يخاف أن تُخالجه اللمسة بألمٍ فضيع ينفجر داخل قلبه ويبدو عليه من الخارج وكأنَّ لا شيء أصابه غير أنٍّ ما بداخله يعمُّه الحزن الذي من شدَّة طغيانه يكاد أن يُذبِل قلبه ويموت من وجع الفراق، ويدخل إلى بيته فلا يجد ذلك الدفء الذي لطالما واساه في البعد، فيجد بداخله وحشة ألَا وهي وحشة الرحيل إلى دارٍ غير داره، إلى دارٍ غرَّبته وهو وسط أهله وأحبابه، دارٌ جعلته يشعر بكل مشاعر الدنيا غير أنَّه لم يشعر بالحب ينبض بين ثناياه، ولم يشعر بأنَّ البساطة التي اعتاد العيش فيها دائمًا بين زواياه! كان يشعر أنَّه مُرغمًا على الاستيقاظ كل يوم من الفراش ليواجه يومه الذي أتعبه مرارًا وتكرارًا، ليؤمن أنَّ ما عاد له وطنٌ يلوذ إليه فرارًا من التعب وهرولة وركضًا إليه من شعوره المُبهم ومن خوفه المجهول…
إذا ضاع الوطن من بين أحضان شخص، فأخبرني كيف له أن يعرف هويته يومًا ما؟ كيف له أن يجد وطنًا آخر يرسم فيه آماله وأحلامه التي ضاعت منه وسط الطريق الذي سار فيه وصولًا إليه؟!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات