"سر البيولوجيا ليس مجرد جينات، ولكنه الروح التي تسكن هذه الجينات"
كبسولة ميكروسكوبية من الجينات مكونة من ٤٦ كروموسوم، نصفهما من الأب والنصف الآخر من الأم. كل كروموسوم يبدو تحت الميكروسكوب على هيئة شريطين دقيقين التفا حول بعضهما البعض في حالة تزاوج وعشق، وكأن الزواج وُجد في أصل خلايانا حتى قبل أن يعرف الإنسان نفسه الزواج.
هكذا يبدو الجينوم في بويضة الأم فور دخول رأس الحيوان المنوي القادم من الرجل فيها. والعجيب أن الحيوان المنوي لا يصيب غشاء بكارة البويضة بأذن عندما يخترقه ليدخل رأسه فقط فيها تاركا ذيله في الخارج بعد أن ينفصل الرأي طواعية لكي يحقق المهمة المقدسة التي خلق من أجلها. فبعد أن يتم اعداده بدقة متناهية في خصية الرجل، يتم دفعه في رحم الأنثى ليسبح هناك في رحلة شاقة هو وملايين الحيوانات المنوية التي تتنافس معه في الفوز بتلقيح البويضة في عرينها ليعطيها رأسه وبها نواته وكروموسوماته مهرا لها.
هذه الكبسولة الميكروسكوبية المسماة الآن البويضة المخصبة قدر لها القدر أن تكون مسئولة من هذه اللحظة على تكوين إنسان كامل في فترة محددة لها هي ٩ أشهر وأحيانا أقل. أين يحدث ذلك، في الرحم، كيف يحدث ذلك، بالانقسام والتضاعف المستمر حتي تتحول من خلية واحدة إلي تريليونات من الخلايا التي تتشكل بعد ثلاث شهور إلي أجهزة رائعة مكونة أعضاء في أماكن محددة تم اعدادها لتقوم بوظائف محددة وبتنسيق مذهل مع بعضها البعض.
من أوحي لتلك الكبسولة البيولوجية الميكروسكوبية أن تنفذ هذه الهندسة الميكروسكوبية في زمن قصير جدا ودقة عالية جدا، هي الجينات الموجودة فيها. ولكن من أوحي للجينات نفسها بأن تتحول من كبسولة إلى انسان كامل بجغرافيا بيولوجية عالية الدقة، بالطبع هو الله الذي أودع فيها من روحه. فلو أخذ أمهر العلماء هذه الكبسولة البيولوجية ولكن منزوع منها هذا الوحي، فلن يستطيع أن يحول هذه الكبسولة إلى إنسان، بل سيجد بين يديه مجرد كبسولة بيولوجية مملوءة بأحماض نووية ميكروسكوبية تتحلل بسرعة إن لم يحفظها في درجة حرارة ٨٠ درجة مئوية تحت الصفر.
حوالي ٩٠ ألف جين في هذه الكبسولة موزعين على ٤٦ كروموسوم في النواة توزيع جغرافي في منتهي الدقة البيولوجية. هذا التوزيع الجغرافي للجينات يعزف بنوتة موسيقية بيولوجية عالية الدقة كتبها القدر لتعبر مع كل لحن عن بروتين محدد أو أكثر من بروتين في نفس اللحظة بدون أدني نشاز. وقد أشبه الجينات المرصوصة علي لوحة الكروموسومات بأصابع البيانو، والعازف هو الروح المتخللة في البويضة المخصبة والتي تعزف علي الجينات بنوتة موسيقية كتبها القدر منذ الأزل بحكمة بالغة. وأثناء العزف قد يعمل جين أو يصمت طبقا ليد العازف الذي يعرف متي وكم مرة يعزف كل جين للخروج بألحان رائعة هي البروتينات التي تجعل الكبسولة علي هيئة سيمفونية بيولوجية كل لحن فيها يحتاج آلاف النوت الموسيقية البيولوجية.
وتبدأ الأوركسترا العزفبنغم هادئ وبسيط ولكن بإيقاع سريع ومنتظم، ثم تزداد سرعة العزف وقوته وتشابكه من جميع الآلات (جينات) لتتحول هذه البويضة من خلية واحدة إلي اثنين ثم إلي أربع ثم إلي ثمانية خلايا فستة عشر خلية ثم اثنان وثلاثون وهكذا في تضاعف مستمر. وعندما تتكون بالونه ميكروسكوبية تحتوي علي تجويف تسمي البلاستوسيل وهي عبارة عن طبقتين.
ويستمر الانقسام الخلوي بمعدل سريع خلال الرحلة التي تستغرق أسبوعًا تقريبًا من قناة فالوب إلى جدار الرحم. ثم تتضاعف البلاستوسيل أكثر ثم تنثني علي نفسها عند أحد طرفيها وتسمي "الجاسترولا" التي تتكون من ثلاث طبقات، تتطور كل منها إلى هياكل مختلفة في الجسم على النحو التالي. الطبقة الخارجية (الأديم الظاهري) تكون مسئولة عن الجلد والجهاز العصبي. الطبقة الداخلية (الأديم الباطنلي) تكون مسئولة عن الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي. الطبقة المتوسطة (الأديم المتوسط) تكون مسئولة عن أنظمة العضلات والهيكل العظمي. ثم تزداد وتيرة العزف في التشكل الدقيق لهذه الكبسولة البيولوجية الميكروسكوبية في أيام قليلة لتتميز إلي أشرطة من الأنسجة المختلفة.

ومن هذه اللحظة يبدأ تميز كل مجموعة من الخلايا إلي براعم أعضاء صغيرة ثم تزداد وتيرة التميز للتحول هذه البراعم إلي أعضاء في أماكن محددة بجغرافيا جنينية في منتهي الدقة اعرف كل خلية مكانها الحديد وعضوها الحديد ووظائفها المكتوبة لها. فمن الخلايا ما يتحول إلي أوعية دموية وخلايا إلي كرات دم بيضاء وحمراء، وإلي خلايا مخ وأخري خلايا قلب وهكذا في تنسيق وتتابع مذهل بحيث تتكون العظام أولا ثم تكسوها العضلات (اللحم) ثم يكسو اللحم الجلد ثم يتشقق الجلد في أماكن محددة التي ينشأ عندها العين والأذن والأنف والفم والشرج.
أحداث سريعة ومتتابعة ومعقدة ولكن بدون خطأ رغم سرعة التضاعف الخلوي الرهيب ولكنه مصاحب بتنسيق مذهل حركة وهجرة دقيقة وتميز خلوي نسيجي عضوي في وقت محدد وكان محدد لا يصدقه عقل. من علم خلايا الجنين أن تقوم بذلك، ومن دلها علي مستقبلها التشريحي والوظيفي، ومن جعل البعض منها يضحي من أجل الآخر، ومن جعلها تعلم الوقت الاجمالي المحدد لها وهو ٩ شهور ولكن علي مراحل متعاقبة. بالطبع، هو الله العلي القدير.
أخيرًا، تصل الكبسولة البيولوجية الميكروسكوبية إلى الرحم وتلتصق بجدار الرحم، وتغذي من الأوعية الدموية للأشهر التسعة المقبلة. في هذه المرحلة، تُعرف كتلة الخلايا الآن باسم الجنين. يمثل بداية الأسبوع الثالث بعد الحمل بداية الفترة الجنينية، وهي الفترة التي تصبح فيها كتلة الخلايا مميزة كإنسان. وبعد حوالي أربعة أسابيع من الحمل، تتمدد الكبسولة وتتميز إلى حافتين تتشكلان على طول كل جانب لتكوين الأنبوب العصبي، والذي يتطور لاحقًا إلى الجهاز العصبي المركزي بما في ذلك النخاع الشوكي والدماغ، بما في ذلك هياكل الدماغ الأمامي والدماغ المتوسط والدماغ المؤخر.
وفي الأسبوع الرابع تقريبًا، يبدأ الرأس في التكون، يتبعه بسرعة العينان والأنف والأذنان والفم. يبدأ الوعاء الدموي الذي سيصبح القلب في النبض. خلال الأسبوع الخامس، تظهر البراعم التي ستشكل الذراعين والساقين. وبحلول الأسبوع الثامن، يكون للجنين جميع الأعضاء والأجزاء الأساسية باستثناء الأعضاء التناسلية. في هذه المرحلة، يزن الجنين جرامًا واحدًا فقط ويبلغ طوله حوالي بوصة واحدة. وفي هذه الفترة الجنينية يزداد تشكل الخلايا العصبية وتهاجر إلى مناطق مختلفة من الدماغ وتبدأ في براعة ومهارة شديدة بـتكوين روابط مع الخلايا العصبية الأخرى، وإنشاء شبكات عصبية بدائية.

التعليقات