هل نحن نقرأ اذا نحن مثقفون؟ ماهي الثقافة و كيف لنا ان نمارسها فعلا قبل ان نتبناها فكرا؟
لا أذكرُ يوما أنَّني و اصدقائي اتفقنا على رأي أو فكرة إلا ما كان عابرا. و وَجَبَ عليَّ أن أعترف أنَّني في كلِّ حوار أخوضه كنتُ أتخلى عن الهدوء و ضبط النفس، و كأَنَّنا للرَّائي في حلبة مصارعة.. لم يكن ذلك تناقضاً منَّي لآداب الحوار و لا ضعفا مني أمامهم و لكن كنتُ أستلذُّ بتلك الراحة التي استشعرها حين اُظهر كل انفعالاتي و حماسي في الحديث معهم... كانت نقاشاتنا مزيج من الحدة و العمق و المنطق واللامنطق في آن واحد، فيها من التنوع الكثير لكن لُبُّها واحد.. ثقافة القشرة..
و على ذكر الثقافة، أذكر ذات ليلة و بعد نقاش حاد أنَّ عقلي اشتهى ان يُسامرني قليلا، ولم يكن مني إلا الرضوخ له برضى كعادتي معه كل مرة.. استفهمَ راجيا أن يفهم، ما هي الثقافة!؟ ..أهي العلم؟، أم هي المعرفة؟، أيمكن أن تكون الدين؟، أو لعلها الفلسفة و التعقيد؟، أم تُراها الأخلاق؟.. كان السؤال شهيا لي، و لم أجد له خيارا مناسبا من كل ما ذُكر، لكن سرعان ما استحضرتني كلمات الفيلسوف الإسلامي كما أحب أن أسبق اسمه دوما عزَّت بيحوفيتش حين قال، إنَّ الثَّقافة هي الخَلق المستمر للذات.. أما الحضارة فهي التغيير المستمر للعالم و هذا هو التضاد بين الإنسانية و الشيئية.
هذا حرفيا معناه أن الثقافة هي ما يؤثر به الفرد على نفسه و يتأثر به من نواحي دينية و فكرية و مجتمعية حتى يحقق معادلة أن يكون الإنسان إنسانا و هذا يحتمل التحليل و التأكيد و الرفض و التأمل و الشك و ما إلى ذلك، أما الحضارة فهي تأثير هذا الفكر و الذكاء على العالم الخارجي حتى تتحقق معادلة أشمل...في حقيقة الأمر لست في صدد تحليل فلسفي و فكري بحت لمفهوم الحضارة و علاقتها بثقافة الفرد لأني لست أهلا لذلك، و لكن أود تقديم فكرة بسيطة للثقافة تتعدى حدود التعقيد.
سيدي الفاضل بيجوفيتش، دعني أُخبرك ما هي الثقافة بناءا على ثرثرة الأكثرية في مجتمعنا الحالي الذي لا أخفيك أنه يعاني طاعوناً فكريا مخيفا نكاد نجزم أنَّه لا أمل له في لُقاح مضاد.. فمجتمع بات فيه الإحتيال يسمى ذكاء، و الإنحلال انفتاح، و الرذيلة فن، و العاهات عادات.. ليس بغريب أن يولد من رحمه مفهوم للثقافة بعيد تمام عن ذاك الذي كانت قد اقترنت به.. فالثقافة في زمني هذا يا سيدي لا تتعدى حدود التفاخر بكم الصفحات و الكتب التي ابتلعتها عقولنا و تعسر عليها هضمها، هي فقط ثقافة جوفاء تعتمد التباهي بثرثرة عدد من الإقتباسات التي حركت اللسان دون القلب، هي ثقافة نصٍ لا ثقافة فعل و عمل، ثقافة إحصاء لا ثقافة صنع قرار، ثقافة رياء لا ثقافة إصلاح و تغيير.
رباه.. ما الثقافة إن لم تَخْلقنا من جديد في كل مره نحس بها عطبا داخلنا، ان لم تُعبِّد لنا طريقا للحضارة.. تلك الحضارة اليتيمة التي تناسينا أنها لا تنتمي لشرق أو لغرب، هي فقط تنتمي لأولئك الذين يتذوقون الجمال أينما أبصروه، جمال الخُلق و جمال القول و جمال العقل و الروح..
ما الثقافة إن لم تجعلنا نَحترِم و نُحتَرَم، نُبْنَى لِنَبْنِي، و نَحْيَا لِنُحْيِي..نُحيي قلبا نُحيي نفسا و نُحيي عقلا.. ما الثقافة إن لم نكن فيها أنفسنا مجردين من أي كبر و غرور و تبعية عمياء لما ندرك بحق أن لا صواب فيه..لم نُخْلَق عبثا و لم نُخْلق صفرا بل كل منا رقم صعب ، عقولنا أروع من أن تبقى في حالة ركود، بل وجدنا لنتأثر و نؤثر، لنرفض و نثور، لنساهم في صنع إنسان الغد.
لا عُذرا عزيزي المثقف.. إن كانت ثقافتك كي تجادل و تناقش فقط، فدعها عنك..و إن كانت ثقافتك مُسَكِّن للمريض النفسي القابع بجوفك، فدعها عنك..و إن كانت ثقافتك لا تغير بك شيئا و ليست لك دستور حياة، فدعها عنك.. نحن أمة إقرأ، لسنا بحاجة للمثقفين عددا، و إنما بحاجتهم عقولا تغير و تطور، بحاجتهم إعصارا يضرب ما أصابنا من رجعية و تخلف، بحاجتهم إكسيرا يشفي من الأمراض التي نخرت جسد أمتنا فأنهكتها و أطاحتها كعنقاء جريحه.
عزيزي...دع عنك هذا..فلسنا مثقفين إن لبسنا الحضارة بروح جاهلية عليلة، لسنا مثقفين إن لم نصنع حياة تليق بنا و بما نحمله في عقولنا و قلوبنا، لسنا مثقفين إن لم نزلزل أو حتى نهدهد بلطف جزءا صغيرا من هذا العالم.. أما دون ذلك فلن نكون، و إن أبى الغرور فينا أن يجعلنا نقتنع أننا لسنا مثقفين فدعنا نتفق حفظا لماء الوجه أننا مثقفون مع إيقاف التنفيذ...
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات