أقصُ عليكم معاناة أخي ذو الاحتياجات الخاصة, وصراعة مع المرض ووفاته.

الأسبوعُ الأخير!

قال-تعالى- وَبَشِرِ الصّابِرِينَ الَّذِينَ إذَّا أصابَتْهُم مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا ِللهِ وإنا إليّهِ َراجِعونَ. صدق الله العظيم.

في الثاني من أُغسطس في عام أَلفَين وتسعةَ عَشَرْ , يومُ الجمعة, الساعة الثامنة والعشرون دقيقة مساءً, مَرَّ عليّ أكبرُ كابوسٍ في حياتي. اليوم الذي هَزَّ جسدي و أوقَعني أرضاً, والذي مَدني بالقوة في نهايةِ الأمر. أقصُ عليكم هذه الأيام وكأنها كانت اّخرَ أيام عُمري.

يومُ الاثنين, التاسع والعشرين من تموز.

في بدايةِ الأمر كنتُ أنا و والدي وأخي الأكبر في أشدِّ فرحتنا وكان الوضعُ هادئاً جداً مع نسمات الهواء اللطيفة, وكانت الأمور تسير على نحوٍ سَلِس. كانَ أخي الأكبر ذُو الثلاثة والعشرين مِن عُمره يجلسُ في بقالته الصغيرة يبيعُ الحلوى للأطفال ويرسمُ البَسمة على وجوهِهِم البريئة, يوماً ما جلستُ بجانِبِه وأخذتُ أُحادثهُ, كان لطيفا جداً رغم أنه كانَ من ذُويّ الاحتياجات الخاصة, حيث أنه كان يعاني قليلاً من صعوبةٍ في الحركة, لكن رُغم ذلك كان يَبتسم ويَحمدُ اللهَ كثيراً ولا يبالي لشيء, في تلك اللحظة وأنا أحادثه سألني إذا حجزت للمشفى, لأني كنت أعاني من ضيقٍ في التنفس وألمٍ في الأنف, أخبرته أني حجزت لعملية وسأقوم بإجرائها في بداية الأسبوع المقبل “يوم الأحد”. قال لي اعتني بنفسكَ جيداً وبإذنِ اللهِ سوف تَخرج بالسَّلامة. شعرتُ بشيءٍ غريبٍ حينها…

يومُ الثلاثاء, الثلاثون من تموز.

كان أخي يُعاني من أعراض مُؤلمة وكانَ متعبٌ جداً, أعطيناه أنا و والدي بعضاً من الأدوية والأعشاب على أملٍ أن يتحسن مع مرور الوقت.

يومُ الأربعاء, الواحدْ والثلاثون من تموز.

أخذناه إلى الطبيب وأجرى له بعض الفحوصات على أملٍ أن يتحسن في اليومين التاليين, لكن اكتشفت بعد ذلك أن أخذه إلى الطبيب زادَ الوضعُ سوءً, هنا أخذت أفكر ما الذي يحصلُ معه؟ لم تكن هناك إجابةً لهذا السؤال سِوى الانتظار…

يومُ الخميس, الواحدْ من أغسطس.

الساعةُ تَدق والقلبُ يَخفُق بسرعةٍ كبيرة, كُنتُ قَلِقلاً كثيراً عليه, ذهبتُ في هذا اليوم لأُحَضِرَ لأخي الأصغر حفلة خطوبته التي سوف تقام في يوم الجمعة الساعة الرابعة عصراً, انتهيت من تحضير بعض الأشياء الضرورية وذهبت إلى المشفى لكي أُجري بعضَ الفحوصات اللازمة لي لأجراء العملية يوم الأحد, اتصل بي والدي ليخبرني بوجود أخي الأكبر صاحب البقالة في المشفى الاّخر, ذهبتُ مرتعباً إليه, وَصَلتُ إليه وسألت عنه أخبرني الطبيب بأن صحتهُ متدهورة ويعاني بعضَ المشاكلَ في الأعصاب… أخذتُ أنظر إليه نظرة حزن كان جِسمه يَرتجف لا يستطيع تحريكه, كانت يداهُ أشبه بأرضٍ يابِسةٍ مُتشقِقَة لم تُسقى لمده سنوات, كان بجميع أوقاته يطلب الماء كثيرا ويواجه صعوبةً في التنفس, لكنَ الأطباء لا يعلمون ما به بالضبط سوى مشكلتهُ مع الأعصاب. للحظةٍ ما وَنحن ننتَظر دَوّرَنا في المشفى سَقطَ أ رضاً واشتدَّ وجَعُه وألَمُه عليه, طُلب منا وبسرعةٍ تحويله إلى مشفىً اّخر, قلقت عليه كثيراً وأخذت أتذكر معاناتَه طِيلة حياته أيضاً مُعاناتَنا مع قوانين المشفى وسِياستها المؤلمة, لم أفقِدَ الأمل هنا وذهبتُ معهُ إلى المشفى وهناك قاموا بإجراء بعض الفحوصات الأخرى له, فوجدوا معه مرضاً يسمى “السكري” وكان مرتفعاً بشكلٍ كبير. وبعد محاولاتٍ عدة معه فقدوا السيطرة عليه وأمروا بإرجاعِه إلى المشفى الذي كان فيه سابقاً, لوضعه في العناية المكثفة, لعدم توفر غرفٍ فارغةٍ, هنا فقدتُ صبري وارتفع صوتي في المشفى, أتى والدي وجاءت الشرطة مع أحدِ الأطباء يشرحون الأمر لنا بأنه قد وصل لهم معلومات خاطئة من المشفى السابق عن المريض “أخي الكبير”, وأن هذا الوقت نُهدره على حسابه. “ أخذتُ أقول كأنها لعبة صغيرة يلهون فيها من مشفى لآخر متى أرادوا ذلك ” أَرْجَعنا المريض إلى المَشفى السابق وتأكدوا من أنه يحمل هذا المرض ثم أدخلوه إلى العناية المكثفة وقاموا بتركيب بعضَ الأجهزةِ عليه لمساعدته على التنفس بشكلٍ طبيعيّ. هنا شعرت بالصداع كثيراً وقلقت بشأنه, لأنه لم أَنَم مُنذُ الثماني والأربعينَ ساعةً الماضية. ذهبتُ إلى البيت لأرتاح قليلاً و تركتُ والدي معه لكن كان بالي مشغولاً عليه.

يومُ الجمعة “اليومُ الأخير”, الثاني من أغسطس .

استيقظتُ مُتعباً جداً وأخذتُ أُحادث والدي عن أخي هل هو في تحسن أم لا؟ طمأنني عنه وقال لي بأن أرتب بعض الأمور التي تخص حفلةَ الخطوبة التي سوف تُقام في تمام الساعة الرابعة عصراً, بدأ الناس يحضرون الحفلة ونطقتُ سهواً أسأل عن أخي الكبير, تذكرت أنه في المشفى, ثم بدأتُ بتقديم الحلوى على الحاضرين ويدايَّ ترتجفان, كُنتُ مُستاءً لعدم وجود أخي معنا في هذه الفرحة الجميلة, شعرتُ حينها بفقد شخص عزيز على قلبي ولم أذق طعم هذه الفرحة بالكامل, لم أتمالك نفسي و سرعان ما انتهيتُ من هذه الحفلة وذهبت إلى المشفى لأرى أخي, كان بعض أصدقاءه حوله وأخبروني بأنه في حالٍ أفضل, في الساعة السابعة مساءً خرجَ أحد الأطباء من الغرفة وقال بأن قلبه توقف للحظات وأعادوه من جديد, فَزعتُ لوهلةٍ و أخذتُ ُ أُكلم والدي ليأتي إلينا, بعدها طلبنا من الطبيب بأن نراه فسمح لنا ولكن ليس كثيراً ” لدقيقةٍ واحدةٍ فقط ” دخلت ونظرت إلى حاله الهزيل وعيناي تدمعان, أصبَحت الساعةُ الثامنة مساءً ونحن ننتظر في الخارج, أتى أحد الأقارب لنخرج إلى الخارج قليلاً, تحدثنا وبدأ يطمانني بأنه سوف سيتحسن, ما أن صَعدتُ إلى أعلى لأرى والدي ومن حوله يبكون وأدخل إلى الغرفة لأجد أخي قد فارق الحياة, لم أتحمل هذه الصدمة فسقطتُ أرضاً وأنا أبكي كالطفل الرضيع الذي لا يفهمه أحد. أخذت أتذكر له بعض الذكريات وأصرخُ بأعلى صوتي, شَعرتُ أن روحي خَرَجَتْ بوفاتِه, لم أصدق ما حَدث فِعلاً, لكن قَدَرُ الله وحُكمه لا اعتراض عليه سبحانه وتعالى. جاء يوم الأحد وموعد عمليتي وتذكرت كلام أخي عندما قال لي اعتني بنفسك, لم يخطر ببالي بأنه سوف يتركني في وسط الطريق, حزنت كثيراَ حينها وتمنيت أن لا أستيقظ أبداً من هذه العملية. …لقد دخلت حينها في كابوس مظلم لا أعلم ما الذي يحصل لم أبالي لأحد ,فقط كنت أردد في رأسي “لقد ذهب أخي وفقدته للأبد”, وفي بعض الأحيان أشعر بأَني مُقصِرٌ تجاهه, لكن الله أعلمُ بِحاله ولا اعتراض على حُكمه.

عن رسولِ اللهِ صلى الله عَليه وسلم قال : “إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع”.

الله يبتلي عباده الأحبَّاء, هو يمتحننا ويختبرنا ونحن يجب أن نَصبر على حُكمه لأنه اختار لأخي ولِغيره الأفضل و راحةُ البال والجسد. ذِكراكَ في روحي تَسكُن, والقلبُ مشتاقٌ لرُؤيتُكْ. رَحِمَكَ الله وأسكَنكَ فسيحَ جناتِه.

بقلم: حمزة تيم.

حمزة تيم

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

انا كذلك فقدت بعض ممن أحبهم وقد تأثرت بمقالك، رحم الله أخاك وادخله نعيم جناته، القصة مؤلمة ومؤثرة ويبدو انها تركت بك جرح ، لكن من الجيد تماسكك ورضاك وتخطيك لهذه الصدمة انك شخص قوي ، حفظ الله لك من تحبهم ويحبونك.

إقرأ المزيد من تدوينات حمزة تيم

تدوينات ذات صلة