كل خيانة قد تهون، لكن أن تخونك ذاكرتك و لا تسعفك على احتضان الحاضر، و تغرقك في تلابيب الماضي لتجعل منك آلة الرجوع عبر الزمن...

الجزء الأول

كل خيانة قد تهون، لكن أن تخونك ذاكرتك و لا تسعفك على احتضان الحاضر، و تغرقك في تلابيب الماضي لتجعل منك آلة الرجوع عبر الزمن، اسمها "محجوبة" امرأة مسنة، لكن رغم تقدم سنها إلا أن جمالها لا يقاوم، نظراتها القوية، عينيها البراقتين و الوشم بينهما يثير فضولك لتمعن النظر أكثر في جمالها الخمري، سواد عينيها الغائرتين، طول حاجبيها،أنفها الصغير الحاد كسيف بثار، ثغرها الصغير كوردة حديثة الشروق، و شعرها الحريري المسترسل حتى جنبات خصرها بخصلاتها التي تتخللها حمرة الحناء، رغم أن شبح المرض أنهكها و الزمن ترك أقوى علاماته عليها، والذاكرة خانتها لتختصر ماضيها كله في أسبوع من الهلوسة بكل ما مضى فاقدة حاضرها كليا.

ولدت "محجوبة" سنة 1930 ببلدة "الشياظمة" ناحية مدينة الصويرة، و عاشت طفولتها مدللة فهي الوسطى بين إخوتها، كان أباها "الحسن" رجل طيب يشتغل فلاحا يجلب القوت لأبنائه دون كلل أو شكوى، و "فضيلة" زوجته تعتني بأطفالها و توفر لهم جميع شروط الراحة، في يوم خرج "الحسن" ليعمل في أرضه كالمعتاد، أحس بتعب شديد فجلس ليستريح قليلا كان الجو مشمسا لم يقوى على تحمله لكبر سنه، فحمل نفسه و عاد للبيت استقبلته "فضيلة" و هي مذعورة مرعوبة، هيأت له فراشه ليأخذ قسطا من الراحة، و أعدت له حساء أشربته إياه بيديها، و نام مطمئنا راضيا على زوجته الطيبة و أبنائه البارين به.

في الصباح الباكر علت صرخة "فضيلة" فتجمع حولها أبنائها، و علا صوت العويل و الصراخ، إنه "الحسن" توفي و ترك خمسة أبناء، الكل حضر للعزاء و أولهم شقيقه "عياد" الذي أتى من مراكش ليرى أبناء أخيه، و يطمئن على حالهم، مرت جنازة "الحسن" على خير، و حزن "عياد" حزنا شديدا لكنه راض بالقدر خيره و شره، أثناء عودته لمراكش اصطحب معه "محجوبة" كانت أنذاك لم تتجاوز الخامسة من عمرها، أول خطوة لها خارج بلدتها، دخلا مدينة مراكش و هو ماسك يدها الصغيرة، و ضفيرتها الناعمة منسدلة على جسمها النحيل، فقد نال منها اليتم رغم حداثة سنها، فتح "عياد" الباب و نادى زوجته "يامنة" لتستقبل محجوبة بعناق شديد، لم يرزق "عياد" و "يامنة" بأطفال فكانت "محجوبة" كنسمة منعشة و هبة من الله عز و جل لتنير حياتهما، غمرت "يامنة" سعادة لا توصف بعدما ضمت "محجوبة" إلى صدرها، و نادتها بابنتي، عاشت ببيت عمها كملكة زمانها، حازت قسطا وافرا من الحنان و الرعاية.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات فاطمة الزهراء شهبالي

تدوينات ذات صلة