تلك الاحرف الأربع -المجموعة في كلمة أحبك- ذات أكبر وقع على النفس، تعددت صورها إلا أن أصلها واحد.


حب الله وحب الأرض، وتلاقي الأرواح على اختلاف مسمياتها كلها تقع تحته شعار عريض يسمى الحب. ذلك الذي لا أحد يهتدي إلى حصره في كلمات، وفقط حرفان استطاعا شمل ذلك الشعور المتشابك، متناهي التعقيد بمنتهى البساطة.

وكما في الكيمياء، حيث الروابط من أجل أن تتكون وتخلق، يتوجب على كلا العنصرين تبادل جزء منهما أو مشاركة جزء بينهما، كذلك هو الحب، حيث على كلا الطرفين بذل شيء منهما، وإلا تحول الحب لشيء آخر، شيء رتيب يخلو من جلالة الحب ويخرج عن عباءته. وتسمية ذلك البذل بـ"الشرط" ما كان إلا لأن الحب لا يستقيم إلا به، ويختلف الشرط تبعا للمحبوب وتتفق الأحبة في بعض الشروط كذلك.

وقد يحدث وتستقيم العلاقات باختلافها دون الحب لغياب شروطه، وقد تقوم على شيء آخر كالاحترام أو الود أو التراحم وحدهم، إلا أنها لن تكون على نفس قدر رونق الحب وعذوبته. والحب كغيره من أمور الدنيا، يُسعى إليه ويُطلب ويتطلب جهدا للحفاظ عليه، وهذا لا يعيبه، لأن كل جهد في سبيل الحب يكون بطيب نفس وعن طيب خاطر ويعود بالنفع على المحب والمحبوب سواء، فيستمتع الباذل ببذله أكثر من استمتاعه بالتلقي.


ولله المثل الأعلى؛ فهو الرحمن الرحيم الرؤوف السميع المجيب لمن يدعوه من عباده، إلا أن حب الله له شروط ذكرها الله لمن أراد أن يسعى لنيل شرف حب الله له، فأخبرنا الله في ستة عشر موضع في القرآن الكريم شروط حبه لعباده، فالله يحب التوابين والمتطهرين والمتقين والصابرين، والمتوكلين عليه، والمقسطين، ومن يجاهدون في سبيله، وكُرر حب الله للمحسنين خمس مرات. وكان اتباع رسوله من أسباب حبه لعباده فقال جل وعلا واصفا قول محمد -صلى الله عليه وسلم- : ( ُقلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، فكان هذا دور المحب الذي يطلب حب الله بالتوبة والإحسان والتقوى وغيره، فما كان من المحبوب جل وعلا إلا أن يرد الحب أضعافا مضاعفة فأخبرنا في حديثه القدسي: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ). وقال صلى الله عليه وسلم: (ِذَا أحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحْبِبْهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ). فيرد المحبوب جل وعلا حب عبده له بأن يضع حب عبده في قلوب سائر عباده ويمهد له سبله وييسر له ما تعسر له، ويستجيب له كل دعائه ويلبي له كل ما يطلب. فهنا يتجلى أعظم أنواع الحب وأجل ما قد يحصل عليه الإنسان في رحلته في الأرض، وقد كان البذل متبادلا وكان العطاء متبادلا، وضُعت الشروط وطُبِقَت فكان رونق الحب.


ولا يختلف كثيرا حب البشر لبعضهم البعض، ولا يصح أن نطلق مسمى الحب على أي شيء عابر مغطى بغلاف الاحترام والتقدير والمودة؛ لأن للحب عمق وبعد آخر. ولا يصلح الحب دون احترام أو تقدير أو مودة؛ فهم الأساس الذي لولا وجوده لما وَجَدَ الحُبُ وسطا صالحا أن يزهر فيه. يظهر الحب ويستقر عندما ينظر المحبوبان داخل نفس أحدهما الآخر، وإنه لأمر لو تعلمون عظيم، فيكون حينها البذل من النفس وإلى النفس ويكون التلقي من النفس وإلى النفس.

ولا يجب أن نغفل عن أن الحب اختيار، فإذا اخترت أن تحب أحدا، فعليك أن تعلم أن الحب ليس سهلا، ليس لعيب فيه، وإنما لما يقتضيه ويتطلبه من أن تشارك روحك وأن تبذلها في سبيل من تحب، وأن تسمح لنفسك بأن تكون ضعيفا في حضرته وأن تخاطر بإظهار أرق جانب لك. الحب صعب لأنك تحمل فيه نَفْسَ شخص آخر، بكل ما فيها من عطوب ومحاسن، لأنك ستكون أول ملاذ وأول مسكن وأدفأ ملجأ وأقرب قلب لمن تحب، صعب لأنك تبذل وتتلقى أمواجا عاتية من المشاعر لم تلقاها من أحد من قبل، صعب لأنه يحتاج قدرا كبيرا من المسئولية والنضج العاطفي لكي تعرف كيف تحب وكيف تريد أن تُحَب. حينها عليك أن توازن بين الخوض في الحب أو التمتع بخلو القلب، فإذا وازنت بين كفتي الميزان ورجحت كفة الحب فاعلم أن كل ما هو متبادل مستمر وأن الحب هو تبادل التنازل عن الأنانية.


قد تختلف لغات الحب من شخص لآخر -كما فسر المحللون النفسيون- إلا أن كل اللغات تتفق في أن جميعها تأخذ منك شيئا، ولا تأخذ منك شيئا أغلى من الوقت الذي هو جل ما يملك الانسان؛ فكل وقت يكون لمن تحب يقربكما من بعضكما أكثر، ويبني بينكما جسورا لم تكونا واعيين لإمكانية وجودها.

ربما يكون الحب مثل النباتات دائمة الخضرة، إما مشرقة طوال العام أو ميتة، لا شيء في المنتصف، ولدوام خضرتها تتوجب عنايتها ورعايتها بالسقاية والسماد والتغذية، وفي المقابل يستمر ظلها وتؤتي ثمارها أبدا، وليس الحب بشيء أكثر أو أقل من ذلك. يبذل المحب نفسه وقلبه ووقته وفي المقابل يعطي المحبوب جزءا من نفسه ووقته وقلبه، ويبذل كلاهما احتراما متناهيا ومودة لا نهائية وتقديرا لا حدود له.

وقد تكون كلمة تقدير غامضة بعض الشيء، أو قد يظن البعض أن للتقدير شكل واحد، أو أنه يستوجب وجود المال أو غيره. كل ابتسامة صادقة تقدير، وكل تعبير عن الامتنان تقدير، وكل دقيقة تخبره فيها بحبك تقدير ، وكل شيء تشاركه محبوبك هو تقدير لما بينكما ودليل على رضاك ورغبتك في دوام خضرة حبكما. فكما أن الحب بذل للنفس يكون العطاء والتقدير بذل للنفس كذلك.


وإذا أحبك أحدهم فاعلم أنه يستأمنك على ضعفه، فإن لم تكن قادرا على إعطائه الأمان لذلك، وإن لم تكن قادرا على جعل هذا الضعف قوة لما بينكما، فلا تخض معه في الحب وارأف بحاله. واعلم أن الحب هو نضج واستيعاب من المحبوبين لضعف أحدهما الآخر، فلا تجعل حب أحدٍ لك نقطة ضعف له، بل اجعله إحدى نقاط القوة، فيكون قويا بدونك وأقوى بك.

واعلم أن من يحبك ويريدك عليه أن يريدك بما أنت عليه وبما بإمكانك أن تصير عليه وإليه. واعلم أنه في الحب يجن أعقل الناس، فلا تستعجب نفسك ولا تكرهها إذا وجدت نفسك تتصرف عكس ما اعتدت عليه أحيانا، ولا تستنكر على محبوبك لحظات جنونه، وبالأخص جنونه بك، ولا تسفهها إذا لم توافق زمنيا لحظات جنونك أنت؛ فالحب ضربٌ من ضروب الإيمان، قد لا يسعه العقل أحيانا!

وأخيرا، اعلم أن سكينة الحب تستحق هذا العناء.


ولأجل كل ذلك كان للحب شروط، تحفظ كرامة المحب وتحفظ نفسه، فمن يقول بأن الحب عطاء بدون مقابل اصرخ في وجهه وازجره جزرا عنيفا، ولا تسمح له بأن يهين عظمة الحب بإلباسه ثوبا غير ثوبه.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

عظيم جدا💙

إقرأ المزيد من تدوينات همسات| فاطمة وائل

تدوينات ذات صلة