تربطنا الطرق ..و يا لتعدد الوسائل ... تربطنا بمآسينا .. أو حتى بفرحنا .. والهم يشد الرباط أكثر من الفرح .. بكل القوة التي آذانا بها يعقدنا ببعضنا أكثر ..

خرجت الشمس الخجولة أخيراً.. آهٍ أيها النجم الأعظم.. أخبرنا.. أوجدنا الفرح لائقين له.. أم أن الهم شمّر عن ساعديه مجددا..

- ها أنتِ يا رحمة.. تفتحين صفحة جديدة.. تبدئين حياة جديدة..

- أننسى الفصول الماضية بمجرد صفحة بيضاء جديدة ؟!

- في الغالب تلك سنة الحياة..

- أو ربما أسمى أمانينا..

بدأ السجن بفتح أضوائه لتسجيل يوم جديد للكثير و لحظات أخيرة للقليل فيه..خطواتٌ بصوتٍ صاخبٍ تقترب.. فتحت زنزانتي و تكلمت بغلظة :

- هيا تخرجين الآن..

و تابعت فتح زنازن البقية ليكملوا ما تبقى لهم من سنوات السجن..

ابتسمتُ بين دموعي دون ادراك.. و تدافعت أنفاسي المتلهفة..

خرجت من الزنزانة و التفتُ بسرعة حتى أرى أمل.. حضنتني بكل قوتها و همست :

-أشكرك.. لن أنساكِ ما حييت.. حقاً لكِ من اسمك النصيب.. مَن مِن البشر سيلتفتُ لصوت بكاء خافت و يخفف من حرقته في صدر صاحبه.. أو سيفتح جراحه لتهون جراح الغير على أنفسهم..

نظرت إلى وجهي بوجهها المحايد بين الحزن و الفرح و تابعتْ :

- أنا على يقين أنك ستوفين بوعدك لأمك...


بعد سنة ..

أول خطوة خارج السجن... شهيقٌ أعاد الحياة لروحي.. أكنتُ حقاً أتنفسُ سابقاً؟.. أصوات الحياة عبرت آذاني.. أكنت صماء سابقاً؟...

بدأتُ الحياة خارج السجن كأني أرى الخارج لأول مرة في حياتي.. كطفل صغير يندهش من كثرة الخلق حوله... و كجاهل يتعرف على علوم الحياة.. يوماً وراء يوم.. تمر الحياة بسلام بدون تفاصيل.. و بكل يوم كنت أستيقظ فزعة خائفة أن يكون خروجي من السجن مجرد حلم.. و يا لفرحتي كل صباح عند رؤيتي أن الحلم واقع .. طوال مدة السجن سواء في بيتنا الصغير أو وراء قضبان الحديد كان الخيال بحياة خارج السجن يسحبني إلى أسمى معاني الفرح اللامتناهي لدرجة عدم قدرتي على وصف ذلك الشعور مع أنه مجرد خيالٍ عابر .. فكيف أصف شعور حقيقتها ؟


بين نسمات الصباح المريحة و صوت أرجوحة طفلة صاحبة النزل الذي أقطن و أعمل فيه، رن جرس المدخل معلناً قدوم شخص جديد.. التفتُ لأرى من القادم و كما أوصتني صاحبة النزل رحبتُ به بابتسامة :

- أهلا بك

- أبحث عن الآنسة رحمة.. أحمل رسالةً لها

- رسالة؟... لي؟...

- أنتِ الآنسة رحمة؟

- أجل..

- تفضلي

أخذتُ الرسالة بكل فضول أبحث عن اسم.. اعتلتني جائحة من الدهشة يملؤها الفرح بذاك الاسم.. أمل..و تحت الاسم بخط رفيع " آمل أنك لم تنسيني"..آهٍ كيف أنساكِ يا رفيقة ليلتي الأخيرة.. فتحت المغلف بعجلة و سحبت نفسي تحت ظل الشجرة المجاورة للنزل..

"السلام عليكِ يا من بعثكِ الله رحمةً لي في ليلتي الأولى.. لا أستطيع التعبير عن مدى أسفي لتعكير ليلتك الأخيرة.. آملُ أن تكون جراحكِ أغلقت و أن يكون النزف قد توقف..و أتمنى أن تكون صفحتك البيضاء الجديدة قد تخللها الفرح.. لا أعلم إن كانت ستصلكِ رسالتي.. و لكني قررت أن أكمل تبادل الهموم الذي بدأتِ به سابقاً.. عسى أن تخجل همومنا من بعضها و لو قليلاً.. آهٍ لو تعلمين كم شعرتُ بصغر همي مقارنة بهمك.. بعد سماع قصتك أصبحتُ أكثر يقيناً بأن وراء كل قوة صعبٌ كاد أن يقتلنا...

بدأت قصتي بفرح طفوليّ هادئ.. عِشتُ طفولتي ببيت ريفيّ فقير.. بالرغم أن أكبر أمنياتنا أن يملأ الطعام معدتنا الفارغة إلا أن الفرح قد فاض من قلوبنا... كنتُ ممن أدرك أن التمسك بالعلم لمستقبل مزدهر أفضل من السعي وراء لقمة الآن.. تمسكتُ بحلم الطب و بذلت كل ذرة طاقة لدي في سبيله حتى وصلتْ.. مرت سنوات كثيرة.. تحسن وضعي كثيراً و في فترةٍ ما قفز قلبي اتجاه الحب.. و لم يستطع العقل سوا مجاراة الأحداث..

قلت أن هذا هو.. ما تدافعت الموسيقى على وصفه... ما تغنى الشعراء باسمه.. نقلني لعالمٍ آخر.. عالم بحثت عنه دائماً.. ظننت أني وقفت على أرض ذاك العالم و إذ تصبح الأرض تحت أقدامي سراب و وجدت نفسي أغرق في غياهب الفراغ حتى الآن... و كيف أميّز الحقيقي من المزيف.. و كيف أميّز الصادق من المنافق.. ظننت أني أعيش ربيع عمري..ليصدمني وجود العواصف حتى في الربيع.. عشقته و لكنه عشق مالي و أملاكي .. عُميت عن الحقائق.. حصل على ما عشق.. سجّل كل أملاكي باسمه .. و ما الذي سيصنعه بالقلم اذا انتهى حبره...

أستطيع تخيل السؤال الذي يراود فكرك الآن.. أعاش طوال الوقت بأموالك؟

- كلا.. كلانا كان غنياً.. و اختلفت مصادرنا فمصدر غناه ثروة والده أما أنا فعرق جبيني و جهد الليالي... كان لديه الغنى و لكن طبع الانسان الطمع ..كانت حياتنا سعيدة مجردة من الصعاب حتى حطت غيمة المصاعب

فوقنا فأخذ هو مظلتي و هرب...و إذ أن الغيمة مزيفة..

خسر سليم جميع ما يملك و اخترت بدوري ان لا أتركه في العراء و فضلت البقاء بجانبه.. حتى خبئ آخر أملاكي تحت اسمه... بدايةً كنت أتردد من نقل أملاكي له حتى قال لي : حالما تعود المياه للجريان كطبيعتها سأعيد كل أملاككِ... ألا تثقين بي؟ أنعشت آخر ثلاثة كلمات مواقع الحب داخلي.. و أملى عليّ قلبي ما أفعل... كنتُ بنظر نفسي مضحية و بنظر السامع خرقاء.. و أتفق مع السامع الآن ...


بعد أيامٍ وصلت ورقة في مغلفٍ خاصٍ لي... ورقة ذات طابع رسمي.. مهما كان داخلها لم يكن مهماً في نظري حينها.. و ماذا قد يكون.. فتحت المغلف و بدأت الصورة أخيراً بالتشكل أمام قلبي الأعمى ... أول صدمة أفاقت ذهني النائم... و أخيراً فتّحتْ عيناي على حقيقةٍ اختبأت ورائي طوال ٦ سنوات...

" طلب طلاق بالتراضي"

كانت أطراف الكلمات تتردد في ذهني... السيد سليم أحمد علي... يتقدم لطلب الطلاق بالتراضي من السيدة أمل محمد مراد الجلسة الأولى بتاريخ ١٦ /٨ / ٢٠١٧ م...

خرجت من مكان عملي نحو مكان عمله على الفور..

- أريد لقاء سليم على الفور

- السيد سليم في اجتماعٍ مهم

- أريده الآن.. قولي له أن يأتي

- من تكونين بالنسبة إليه سيدتي

تلعثمت كلماتي عند ذاك السؤال الذي كنت أجيبه بملء الفم سابقاً.. وجدت نفسي أضحك.. كم هو مؤسف أن يضحك المرء على حالته المبكية..

- قولي له السيدة أمل تريدك حالاً !

- حالاً سيدتي.. استريحي في منطقة الانتظار رجاءً..

وقف سليم أمامي و رأى بيدي ورقة الطلاق.. نظر باشمئزازٍ و قال :

- أخيراً وصلتك العريضة

- ماذا يعني كل هذا؟ أجننت؟

ضحك باستهزاء... - أراكِ في المحكمة يا زوجتي السابقة

ظننتُ أن ذلك اليوم أصعب أيام حياتي.. إلا أن كل الأيام بعده تنافست على لقب أصعب يوم... ما بين الصراع لاسترداد أملاكي و الصدمةِ بحقارة و طمع من كان شريك حياتي...مرت شهور يؤجل القاضي قضية الطلاق فيها حتى جلسةٍ أخرى.. طلباً للمزيد من الأوراق أو استدعاءً لبعض الشهود... فقرر سليم المحاولة بطريقة أخرى .. طريقة أسرع له و أصعب لي ..

في يومٍ وجدت أضواء الشرطة تملأ الشارع الفاخر الذي أسكن فيه.. نظرت من طرف النافذة بصمت حتى سمعت صوت جرس الباب.. فتحت الباب بفزع.. كانت الشرطة.. لم أفهم أي جملة قالها الشرطي و طلبت منه الاعادة لثلاث مرات.. أنتِ رهن الاعتقال... تهمة السرقة.. لا أستطيع وصف عدم القدرة على التنفس الذي أحسستُ به.. سكن القهر فؤادي...

ثم مرت الأحداث دون أن عاتبها.. كنت ألتزم الصمت.. أمام المحامي.. أمام القاضي.. و أمام البشر.. حتى دموعي لم تعد تزرني مثلما كانت تفعل سابقاً...

كل المال الذي في حسابي مسروق.. أنا لم أسرق.. حقاً لم أسرق.. أنا تعرضتُ للسرقة.. و لم أجد مطلقاً من يحاول و لو قليلا تصديقي... فبنظر الجميع أنا مجرد مجرمة...

حتى بنظر نفسي أنا مجرمة.. ليس لأني سرقت المال.. بل لأني بعت الثقة مقابل اللاشيء.. لأني صدقتُ كذبة.. بل و آمنتُ بها... و إذ أن ما آمنتُ به نفاق..


رفيقتي في الهم.. يا من عرف بضعفي قبل اسمي.. قدّر لنا ارتباطنا بالهم.. تصارعت همومنا بعد التناجي.. حتى أدْركت أن كلاً منها بعثت لتُناسب قوة متلقيها.. كلنا لديه من الأثقال قنطار .. و من القوة أطنان ..



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

بتجنننن 🥺❤️

إقرأ المزيد من تدوينات دانية اسماعيل

تدوينات ذات صلة