تربطنا الطرق.. و يا لتعدد الوسائل.. تربطنا .. بمآسينا.. أو حتى بفرحنا.. و الهم يشد الرباط أكثر من الفرح.. بكل القوة التي آذانا بها يعْقدنا ببعضنا أكثر..

في دنيانا نعجز معرفة ما القادم.. في حين أننا في قادم البارحة.. نعجز التفريق بين الحب و النفاق.. حتى تصدمنا المآسي بالحقيقة .. نعجز الترحيب بقوتنا أحياناً.. و نرحب بالشجاعة اللحظية في حينٍ آخر.. ور غم كل ذلك لا نعجز عن الأمل..و لا نعجز عن الرحمة بالطبع..

أعيش الغد ما انتظرته منذ سنوات.. ما استمرت رئتاي التنفس من أجله.. رؤية النور.. رؤية الحياة خارج هذا المكان.. خارج الأبواب المقفلة.. خارج السجن.. آه.. كأني سأولد من جديد..

آملُ أن تُمحى سنوات السجن من ذاكرتي.. و أن أعيش الحياة البسيطة التي حلمتها طيلة الخمسة أعوام الماضية.. أن أنفذ وصايا أمي ذات الحضن الدافئ و الملاذ الآمن..

آخر ليلة.. دقائق و يأتي وقت إطفاء أضواء السجن.. تلك التي بلا نور.. تضيء و تضيء و لكن ما فائدتها إن كانت في السجن؟.. أخيراً سأعيش شعور اضطراب و حماس آخر ليلة في ظلام السجن..

١.. ٢..٣.. و أُطفئت الأضواء.. بدأ كل المحكومين بالوصول إلى فراشهم.. ألا و هو كاتم أسرارهم.. كم من دموع امتصها.. و كم آهاتٍ سمعها.. و كم خبأ تحت وسادته من صور تمزقت أطرافها من كثرة احتضانها...

وضعت رأسي على الوسادة و الحماس يلعب و يتراقص داخلي.. هدوءٌ جميل.. لأول مرة هدوء السجن جميل.. و بذاك الحماس لم يأتي النوم لعيني السعيدتين .. أنظرُ للسطح القاتم و أبتسم كالهائم بعد قراءة رسائل العشق دقيقة و كالطفل قبل رحلة مع أصدقائه دقيقة أخرى .. بدأ النوم يحط فوقي على مهل حتى سمعت تلك الشهقة الخافتة.. أظنني كنت أهلوس.. عُدت لمحاولة النوم مجدداً.. حتى منعني ذاك الصوت مجدداً.. صوت أحد يبكي.. كأنه يحاول إسكات صوت البكاء و لكن بدون نتيجة مُرضية.. جربتُ قول ما شأني و لكن لم تكن من عماقي.. بالرغم من انخفاض صوت البكاء كثيراً إلا أنه استمر بالوصول لآذاني و التربع على تفكيري.. أنزلتُ أقدامي للأرض و سحبت نفسي خارج الفراش على مهل.. مشيتُ خطوتين حتى وصلت الجدار الفاصل بيني و بين صاحبة البكاء المرير.. لقد أحضروها اليوم.. أول ليلةٍ لها.. ستكون ليلة شاقة عليها بالتأكيد.. دائما أول ليلة هُنا سوداءُ قاتمة لا تكاد عُقولنا التصديق أين نحن.. نضيع بين سواد داخلنا و سواد الغرفة و تضيق الجدران أنفاسنا المتعبة..

أسندت ظهري للجدار و همست :

- هيه.. أيمكنك سماعي؟

استغرقت دقيقة حتى أجابت علي

- من أنتِ؟ ماذا تريدين؟

- يدعونني الخرساء هنا.. أول ليلة لك أليس كذلك؟

- الخرساء؟.. أنتِ صاحبة الليلة الأخيرة هنا أليس كذلك؟

- أجل.. من المدهش قدرتك على الانتباه لما يُقال في أول يوم.. بالنسبة لي فقدت كل حواسي أول أسبوع..

- لا تعرفين كم أغبطك..

دقيقة صمت قاطعها صوت بكائها دون قدرتها على كبته.. ثم سألتها :

- كم المدة التي حُكم عليك بها؟

- خمس سنوات.. أهي صعبة كثيراً؟.. حياةُ السجن و أول ليلة ؟... انظري لسؤالي السخيف بالتأكيد صعبة... لا أستطيع التصديق أين أنا...

رغم ظنها أن سؤالها بلا فائدة فقد اخترت الإجابة

- لن أكذب عليك.. أول ليلة و التي تعيشينها الآن صعبة كما ترين و حياة السجن مريرة بالطبع

ربما كان يجب علي التهوين عليها لا ترهيبها أكثر... و لكن يصعب على المرء تهوين قسوة الليالي الموحشة التي مرّ بها أحياناً...

- أذكر أول ليلة...أمضيتها جالسة طرف الغرفة على الأرض الباردة.. استمريت بالبكاء الصامت و الإرتجاف حتى الصباح.. لم يلمس النوم عينيّ طوال ٣ أيام... ليتني حاولت التكلم أو الشرح بما أشعر.. أحيانا يريح التكلم النفس.. و لكني بقيت صامتة معظم الأوقات إن لم تكن كلها طوال مدة السجن..

- لهذا يدعونكِ الخرساء..... لماذا تتكلمين معي الليلة؟

- لا أعلم.. ربما ليس لكل نتيجةٍ سبب..

-حدثيني عن هذا المكان.. بكل صدق.. أرجوكِ لا تكذبي لتهوني عليّ.. الحقائق تؤلم و لكن يزول ألمها.. أما الكذب فلا ينتهي ألمه مدى الحياة..

- هنا حيث ندور في اللامعلوم... حتى و ان وجدنا طريقة للفهم تستوقفنا أحداثٌ أخرى.. هنا حيث لا نحتاج الخمر و مرارته لنفقد عقلنا فالحياة مشكورة فعلت... هنا حيث لا يوجد كتفٌ يكون سنداً لنا و لأثقالنا و لا ننتظر يداً تُمد لنا عندما نتعثر.. هنا ستمدين يدك لنفسك و وحده كتفك سيكفيكِ.. فكلنا لديه من الأثقال قنطار..

- اذاً هنا نموت...

- كلا بل هنا نعيش... رغم أثقالنا... و رغم أكتافنا المتكسرة..

قاطعتُ الصمت الذي استمر لأكثر من خمس دقائق.. و لأول مرة منذ سنين عرضتُ على أحدهم سماع قصتي التي لم أكد أُكلم نفسي بها...

- ألا يقولون " اذا عرفت هم غيرك يهون عليك همك".. لا أعلم من منا همه أكبر.. أو حتى من مجرمٌ حقاً.. دعينا نتبادل القصص.. عسى أن يخجل همي من همك أو أن يخجل همك من همي..

أتى من طرفها الصمت.. فاعتبرته تعبيراً للرضا.. و بدأت :

قصتي من النوع المألوف و نأسف لكونه مألوف..من النوع الذي اعتاد البشر على سماعه و روايته.. سواء مؤيدين للوضع أو معارضين.. ما زال صوتنا لا يصل الأسماع إلا حين نُقتل أو نَقتل.. عندها فقط يصبح لصوتنا آذان تَسمع حيث تكون حياتنا تلاشت و روحنا دُمرت.. حيث يكون الأوان قد فات.. و رغم كل التطور و التحضر الذي تتباهى به الأمم و الشعوب فما زال وصف المرأة بالرجل تلميحٌ لقوتها و وصف الرجل بالمرأة شتيمة و تأكيدٌ للضعف... قصتي قصةُ امرأة عاشت الحكم الذكوري.. تخبطت ما بين العنف و الألم و ترعرعت على فكرة أنها عورة و عيب و أن وجودها ثقلٌ على المجتمع.. لحسن حظي أو لسوئه لا أدري، امتلكتُ قوة لم تعتد نساء الأسرة امتلاكها..و مع ازدياد القسوة ازداد عنادي و مع ازدياد الألم زاد وعيي و حقدي... مع كل ضربة كنت أدافع عن نفسي و وراء كل دفاع يأتي ألم أكبر و لكني كل مرة كنت أختار الوقوف بقوة بعد كل ضربة أو شتيمة بينما تختار الأخريات التألم بصمت و التأقلم على الألم.. اعتادت أمي القول في صغري أني شجاعة و لكن أحتاج للقوة.. لا أعلم ما الذي ستقوله لي الآن فقد سُلب منها حق الحياة بعد ما سُلب منها حق العيش بكرامة...

ما زالت ذاكرتي تحتفظ بسجلاتٍ لكل مرة تهانُ روحي بها كما احتفظ جسمي ببقع الضرب و خدوشه.. بذاكرتي لحظات نال قلبي منها النصيب.. تراكمت داخلي دون ترتيب.. لم أستطع التخمين أن كبتها بداخلي ضرر أو أن عدم الصراخ عند التألم وجع أكبر.. لم أعتد التكلم أمام أحد عن مشاعري أو عن النزف داخلي..لم أسمح لدموعي بالخروج من مخبئها حتى أمام نفسي.. آمنتُ أني إن تجاهلتها تختفي و أنساها .. و لكنها أبت أن تُنسى.. و إذ أن ما آمنتُ به خاطئ..

ليتني بحتُ بالماضي المبكوت داخلي لأي أحد.. أتعلمين .. اللآن و لأول مرة أعطي نفسي فرصة التكلم و البوح.. أعطي نفسي فرصة لعدم الكبت ..

أذكر أنه ذات مرة وصل والدي إلى البيت بعد صفقة فاشلة و خسارة فادحة فاختارت يداه أن تصب ألمه و خسارته في روحي و بدأت ليلة الألم المعتادة... صوت الضرب الذي يستحيل أن يلحقه صراخي بل تتبعه يديّ تدفعُ به بعيدا عني حتى قرر أنه قد حان دور أُمي، فأمسكت ذراعه المرفوعة فوق ناظريّ والدتي حاولت دفعه و لكن لم تساعدني قوتي فابتسم ابتسامته المريرة و التف لينطق الشر

- تريدين دفعي؟ تريدين التخلص مني أليس كذلك..تريدين أن أتألم أيتها المجرمة... تريدين قتلي بالتأكيد.. كيف أعلم أنك لن تقومي بقتلي خنقاً بوسادة في يومٍ ما.. أو أن تضعي السُمّ في طعامي.. أنا متأكد أنك و أمك تلك تقومون بمؤامراتٍ لجعلي أعاني.. ربما حفرتم قبري حتى.. ألم يكفيكِ مأوى بيتي و اعالتي لك..

- أي مأوى تتكلم عنه؟ الذي نضرب و نُهان فيه.. لم أرى منك سوى العنف... لم تهديني سوى اللكمات و بقع الجسد..

- ها... تريدين شيئاً جديدا؟

أرعبتني جملته الأخيرة زعزعت كياني و صمت لساني حتى رأيته يمسك حديدا موضوعاً على المدفئة يكاد يذوب من سخونته و من دون أن ترمش عينه الحاقدة وضعها على ذراعي.. من دون أن يهتم بعيوني الخائفة أو بصوتي المرتجف... من دون أي رحمة...

ما زلت أذكر ذاك الألم الذي جعلني لأول مرة أصرخ أمام عنفه بهذه الطريقة.. رائحة لحمي المحترق.. و أنفاسي المتأججة باللهب و أمطار عيوني المتكاثفة قررت النزول سريعاً.. بقيت أتألم مدة طويلة من ورائها و بالطبع لا يمكن أن يداوي جراحي و جراح أمي سوا نفسي...

- ألم تحاولي الهرب قط ؟

- هه... لا أستطيع عدّ المرات التي حاولت الهرب فيها.. و مع معرفتي أن ألم امساكه لي شديد و الضرب الذي سأتلقاه مميت.. إلا أنني لم أستطع إيقاف نفسي أمام فرصة لحياة بعيدة عنه... اضافةً لعدد المرات التي هربت فيها من الحقائق.. من الحياة المريرة إلى الخيال الجميل.. كانت الحياة الطبيعية وهم أعيشه في خيالي فقط.. فلم تكن حياتي سوا هم.. خيال استيقاظي على صوت والدي بحنان و تناول الإفطار المتواضع مع ضحكات الصباح.. أو النوم بعد ألعاب المساء العائلية.. قول صباح الخير و مساء الخير بحب لبعضنا البعض.. أبسط اللحظات التي لا يبالي الناس بها.. اعتدتُ العيش بتفاصيل الأحلام.. كان خيالها جميلا فكيف بحقيقتها.. حاولت اشباع رغبتي بالحياة عن طريق الخيال.. لم يكن كافياً للإشباع.. و لكن أبقتني على قيد الحياة..

اهٍ يا أمي كم عانينا.. اهٍ يا أمي كم أشتاق لكِ.. لأحضانك.. و ايقاظك لي كل صباح.. اهٍ يا أمي... كم يوجد داخلي قهر.. من تلك الليلة المرعبة.. من الشمس التي غابت ذلك اليوم .. من ابتعادك عني..كان المطر عزيراً في الخارج.. جلست أراقب حبات المطر التي تحاول التمسك بالنافذة إلا أنها تسقط مسرعة... صوت الرعد.. ثم تمتمة أمي بالتسبيح بعده... كم تكون اللحظات مريحة عندما نكون لوحدنا.. أنا... أمي.. و صوت المطر... حتى يكسر انساجمنا الجوهريّ صوت وصول من يسمي نفسه والدي.. دخل بوجهه المأساوي ذو التفاصيل الشرسة و كالعادة بدأ يبحث عن حجة.. للانتقاد ثم للانتقام...

يتكلم و يثرثر بينما نتابع و أمي صمتنا اللاذع على غير العادة.. لم ينل ذلك إعجابه.. وقف و ضرب بيده الطاولة.. يبدو أنه لم يعد بحاجة لحجة..

- أيعجبكما صوت المطر كثيراً؟

صمتٌ مبهم يزيد غضبه..

- ما رأيكما أن تريا المطر عن قربٍ أكبر

لحظات حتى أجده بدأ بسحبي و سحب أمي نحو الباب و رمانا بوسط العاصفة خارجاً و أغلق الباب.. قلنا المطر أهون منه و ما الذي سنعانيه من المطر سوا البلل..كان اللجوء لأي مكان يقينا من شدة لا تستطيع رئة أمي تحمّله واجب.. إلا أننا لم نستطع اللجوء لأي مكان يأوينا نتيجةً لبعدنا عن أقرب البيوت إلينا فالمسير في مثل هذا المطر مسافة طويلة يعتبر هلاكاً لأقدام أمي المتعبة من سخط سجّانها.. إضافةً لخوف سكان القرية من تقديم المساعدة لنا فيقولون أن مساعدتنا ستؤدي لرمي أنفسهم و أولادهم للهلاك و العذاب...

- أمي.. هيا لنذهب لأقرب مكانٍ يأوينا.. علّنا نجد نفساً لا تخافُ سوا باريها..

- كلا يا صغيرتي.. حاولنا و تعرفين النتيجة.. و أقدامي لن تستطيع التحمل..

- و لا رئتك.. أرجوكِ يا أمي

دعيني أحملك على ظهري.. إن لم تحملكِ قدماكِ أحملك أنا.. إذا لم تستطع قدماكِ فأقدامي فداءٌ لكِ.. كلّي فداءٌ لكِ...

- آه يا صغيرتي.. بكل عطائك لم تستحقي هذه الحياة.. آه يا صغيرتي ليتني خلصتكِ هذا العذاب... سامحي أمكِ يا ابنتي.. حمّلتُ أكتافك الصغيرة أطناناً من الهموم.. ليتني استطعت قول لا عندما باعني والدي لوالدك..

اشتد المطر فوق رؤوسنا.. و اختلط الدمع بالمطر.. تضائلت قوة أمي على أخذ النفس... كنتُ أحاول تدفئتها بكل ما لدي و لكن لم تتوقف رجفتها أبداً.. كما لم تتوقف عن ذكر الله..بعد ساعتين من الصراع مع المطر أحسست بتأجج نفس أمي... و بدأت أمي بالكلام و أنا على سمع دون أن أحاول مقاطعها فقط دموعنا تنهار معاً..

- صغيرتي.. احظي بما هو ملكٌ لكِ... احظي بالحياة.. لا تدعي أي أحد يطفئ الشجاعة بداخلك.. عيشي حياة بعيدة عن العذاب القاتل الذي عشناه معاً... إذا حظيتِ يوما ما بأطفال فلا تكوني أماً مثلي.. لا تسمحي أن يكونوا مصّب غضب أحد.. كوني كما عهدتك دوماً.. مقاتلة.. محاربة.. قوية رغم صعوبات الحياة.. كوني كما عهدتك دوما.. مناضلة لا يوقفها الألم عن الأمل و إذا طلب أحد منكِ المساعدة لا تخشي هلاككِ بل اخشي هلاكه.. لا تسمحي بأن تكوني مظلومةً أو ظالمة... عيشي والظلم عدوك.. و انبضي بالرحمة و الحب فلهذا أسميتكِ رحمة ... دمتي سالمة صغيرتي..

لفظت أمي آخر أنفاسها و انتقلت الى رحمة ربها حيث لا تُهان أو تُظلم...

- أمي... أمي أرجوكِ ردي علي.. أمي أرجوك... حبيبتي.. أمي.. أجيبي أرجوكِ.. لا حياة لي بدونك.. لا سلام لروحي بلا روحك...

ثم خرجت صرخة صماء متزعزعة من كياني المنخذل.. أمي


حضنتها بكل ما بي من قوة.. و بكيت بكل ما بي من ضغف.. لا أعلم كم مرّ من الوقت و انا و السحاب نبكي سوياً..أشرقت شمس الصباح و ليتها لم تشرق ذاك اليوم... ليتنا بَعدُ بالأمس.. ليت الوقت يعود لكل دقيقة كنت قرب والدتي فيها... طوال الليل استنشقتُ عبق أمي.. طوال الليل كنت بقربها... يا لخساتي بفقدانك يا ملاذي الدائم...

رُفعت الجنازة.. أصوات ناسٍ حولي يتمتمون.. لم أستطع الخروج من صدمة الحقيقة لدرجة انقطاع الاتصال بين أذناي و عقلي و صمت فؤادي الحائر... أردت أن أصرخ.. أن أعبر عن ما حصل.. أن أغضب من كل البشر.. من كل من أتوا للجنازة.. اكتفيت من الصمت و باح لساني بما كَتم قلبي

- أين كنتم.. و إلى أين ستهربون من ضمائركم... إن كانت موجودةً حتى.. ما فائدةُ عيونكم إن كان فؤادكم أعمى.. ما فائدة آذانكم إن كان ضميركم أخرس.. كلكم مذنبون.. كلكم آثمون.. جلست على قبر حبيبتي و أعطيت أمي وعداً بأن وصيتها عهدٌ علي ما دمتُ حية..

وصلت البيت و بدأت بترتيب لوازمي و ثيابي في الحقيبة.. هذه المرة سأذهب.. لن أهرب بل سأذهب.. باسم الحرية سأذهب.. إلى أين لا أعلم.. و لكني سأذهب.. أمسكت حقيبتي و فتحت الباب.. و إذ أراه أمامي.. ذاك الوجه المشؤوم.. أصبحت رؤيته أكثر اشمئزازاً لي.. لم أعد أهاب نظرته الحاقدة أو كلماته الجارحة أو حتى يده المؤذية..

- إلى أين تظنين نفسك ذاهبة..

- بأي حقٍ تسأل أيها القاتل.. قتلتَ أمي دون أي شفقة..

- لا تتكلمي أكثر و تزعجيني..

أدركت أن هذا النقاش سيكون قهراً أكبر لي.. ففضلت الذهاب.. و بيدي. الحقيبة بدأت الهرولة بغضب.. نظرت ورائي و إذ أراه يبدأ اللحاق بي.. مشيت و مشيت دون اكتراثٍ لما يقوله.. حتى وصلت بداية المدينة.. أمسك ذراعي بقسوة كالمعتاد..

- كفاكي لعباً.. عودي حالاً

- أفلت يدي أيها القاتل..

فبدأ كالعادة بالتبرير بوقاحة..ليس لي و لا حتى لأمي .. بل لنفسه و لضميره.. حتى يعطي نفسه الحق المطلق لما فعل أو لما سيفعل..

- توقفي عن لومي أيتها المفترية.. أنهكتني مشقة العمل اليومية و ما أدراكي ما مشقة العمل .. لم تبتسم أمك البخيلة تلك في وجهي ولو لمرة واحدة في حياتي.. لم تعطني قيمة أبداً.. راتني كنكرة دائماً.. وأنتي أيضاً ذلك.. ما شأني إن تداعت قدرتها على التنفس.. ما ذنبي إن كان الليل عاصف.. كان قدرها..

كان كلامه بمثابة رصاص أوقف قدرتي على التفكير.. توجهت يدي بغضبٍ بلا تفكير اتجاه عنق والدي.. و بدأت بالشد بكل قوتي.. إلى الآن لا أعلم من أين جاءت كل تلك القوة لمعصمي النحيف و رغم محاولة من كان حولنا لفك قبضتي عن عنق والدي إلا أن القفل كان متيناً.. بدأت أنفاس والدي بالإنتهاء و أحسست أن ثقله بدأ بالانسحاب نحو الأسفل.. حتى سمعتُ صوتاً خافتاً يأتي من أعماقي " لا تكوني مثله.. لا تكوني قاتلة"..تبعها صوت أمي ، تردد صوتها كأنها تهمس من أعماقي.. " فلهذا أسميتكِ رحمة".. بسطتُ يداي و فككتها سريعاً وسط أنفاسي المتضاربة.. و سقط والدي ذو الجثة الضخمة على الأرض.. لتنهي الأرض ما بدأتُ به.. كانت قوة ضرب رأسه كافية لصبغ الأرض بالأحمر القاني..

صراخ صفارات الشرطة تملئ المكان.. أصابع تشير نوحي من كل مكان.. و صمت قاتلٌ في فؤادي و من لساني حتى اقترب شرطيان مني.. و قبل بدء أحد منهما الكلام بدأت أنا الهذيان..

- لستُ أنا.. لم أكن أنا.. لم أفعل شيئاً

- ألم تحاولي خنقه..

- كلا لم أفعل.. أُقسم لم أفعل.. لستُ أنا.. لم يحدث ذلك

و جاء الإعتراف بعد أيامٍ من الإنكار القطعي الذي كان إحدى محاولاتي لتخفيف قوة الصدمة..


تابعت الشمس إصرارها بالشروق كل يوم.. مجبرةً إيانا للقاء يوم جديد.. للقاء ما نخشاه أو ما نرجوه.. ليوم جديد للشوق أو الكره.. مات سجّاني ليكون لي سجّان آخر...نُقلتُ من سجن أصغر بمعاناة أكبر إلى سجن أكبر بمعاناةٍ أقل.. لا بأس فقد اعتدت السجن منذ بداية حياتي.. و لكنه قتلني كل يوم.. أوصلني لحافة الموت كل يوم.. و عاش حراً طليقاً.. و عندما قتلته مرة واحدة.. وُضعتُ خلف القضبان.

يتبع...




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

مااحلاكي و ما احلى كتاباتك ❤️❤️❤️❤️

إقرأ المزيد من تدوينات دانية اسماعيل

تدوينات ذات صلة