نتابع اليوم بذكرى الأمس.. و نُمدّ بطاقة جديدة كل صباح.. و مثل كل مرة.. ننجو بلطف الله.. لا بقوتنا الضئيلة..

توقفت الرياح عن مجابهة نوافذ البيت الصامدة بعد مواجهة عنيفة ليلة البارحة.. و إني لأعجز التوقف عن الإندهاش في كل موسم شتاء.. كيف يستطيع الهواء إصدار كل هذه الضوضاء خلال تحركاته، مكلّماً أسوار المدينة عن مستجدات آخر المدن التي زارها.. مُسقطاً بعض أوراق الأشجار التي طاوعت أفرعها تراقص الرياح ... تأتي الرياحُ بكلّ قوتها لتصدم الأبواب حتى يخيّل إلينا أن زائراً قد جاء.. و لا تقل قوتها عند اصطدامها بنا.. أتحاول العتاب أم المعانقة.. من يدري؟.. حماس أقمشة جدتي ذات اللون الأبيض الموضوعة على الحبال خارجاً يوقعها أرضاً.. كان ذلك سبباً مقنعاً لجدتي ذات مرة عند سؤالها لي : أنت أوقعت أقمشتي أم الرياح؟..

- ال.. آه ... الرياح بالطبع ياجدتي .. الرياح..

إلا أن أثر الكرة على القماش كان الدليل القاطع ضدي..

أصبحتُ أدرك أن جدتي عادة ما تعرف أجوبة ما تسألنا عنه ..

فاعذري طفولتي أيتها الرياح.. و الشكر لكونكِ شريكاً في تعليمي الصدق.. حتى عند الذنب...

- كم كانت ذنوبنا صغيرةً في صغرنا..في الوقت الذي كنا نتمنى أن تطول قامتنا فقط لنستطيع لمس حافة الباب العليا بأناملنا... كانت ذنوبنا محاطة بأنقى أنواع البراءة.. براءة الطفولة... كبرنا فكبرت ذنوبنا.. أم كبرت ذنوبنا فكبرنا.. أيها السبب و أيها النتيجة؟... من يدري؟...

من بين كل ذنوبنا آمل أن ندرك يوماً الخط الفاصل بين الفهم الخاطئ و الصحيح لما يقصده الناس... و أن للإعتذار آلاف الطرق ... فلكلٌ أسلوب اعتذار بينما نتفق جميعاً على الهدف..

كم من يا ليت تقول في يومك؟.. بالنسبةِ لي هي ثاني أكثر كلمة تتردد في جوفي.. لم يكن لساني ينطق بها.. خوفاً من أن تصل حروفها لسمع والدتي.. خوفاً عليها من أن يتجدد الحزن في قلبها لما عشناه و لما نعيشه الآن..خوفاً من نزيف جروحها بعد أن تخثر الحزن...

الظروف و آهٍ من الظروف... جعلتنا و أمي نتشارك بنفس القَدَر.. أجبرتنا الظروف على النضج المبكر.. على تحمل المسؤوليات الشاقة... و على رفع الأحمال فوق ظهورنا...

سندتني والدتي في صغري.. عملتْ حتى انهار جسدها من التعب.. و تتالت الأمراض عليه سريعاً... و الآن و بفضل الله تسندني أمي بالدعاء.. تنقذني به من ويلات المآسي... فدعاء الأم مستجاب....

قصر الأيام... أهي رحمة أم ابتلاء؟

هل الأربع وعشرون ساعة اليومية كافية لدوام المدرسة و الذهاب للعمل في محل النجارة و متابعة الدروس و النوم؟

و بالطبع يكون للعمل نصيب الأسد و للنوم في الغالب لا نصيب إلا القليل...

و عندما نأتي للحديث عن الأب.. أتمنى لو استطيع القول أني أشتاق إليه.. أو أن طفولتي مرت بين ذراعيه... أو أنه كان شخصاً صادقاً أميناً.. ليته كان شخصاً نبيلاً توفي.. و ماذا تصنع ال (يا ليت) غير تذكرينا بالواقع؟

أنا يتيم..... يتيم بلا ذكريات عن حنان الأب.. أو عن طريقٍ مشيت به ممسكاً بيد والدي.. أو عن طائرة ورقية صنعناها سويا..كل ما في ذاكرتي صراخ يصم الآذان.. ببساطة يتيم بذكريات جرداء من حب الأبوة.. أرض خالية من الجذور لدرجة عدم فهمي للأبوة...أنقص الأب أم نقص سنده في وجوده ما يجعل المرء يتيماً ... فإن كان الثاني فقد ولدتُ يتيماً..

في سن الحادية عشر طُلب مني كتابة موضوع تعبيري عن الأب.. عن أكثر موضوعٍ أجهله... تركتُ الورقة بيضاء كما هي..

إذا همستُ لنسيم البحر أفكاري عن للأبوة للوثته.. فكيف ببياض الورق ؟....


نعاني جميعنا كل فترة من أفكارنا المتناقضة و من المصاعب المتتالية .. حقيقةً من منا حياته وردية ؟...

ليلة البارحة ترددت فكرة واحدة في ذهني.. لوثت فتات الهدوء الذي كان في عقلي.. أقحمتُ نفسي بأفكارٍ كئيبة.. أيعقل أن نتقمص شخصية والدينا عندما نصبح والدين.. أيمكن أن يكون والدي قد شعر بما أشعر اللآن.. بالكره و الحقد..أنرثُ الصفات كما الملامح.. لا منطق في ذلك.. نزلت دموعي و أحسست بغصة في أنفاسي لمجرد التفكير بذلك...

ألا يقولون لا يفل الحديد إلا الحديد... ربما كان التفكير بكآبة إحدى الطرق لجعلي أنسى ما مررت به نهار البارحة... كلما أتذكر ما حصل تغتالني غصة في أنفاسي.. كأن صرخة صماء تحاول الخروج من أعماقي.. كيف لهم اتهامي بالسرقة.. بالطبع تتوجه أصابع الاتهام سريعاً نحو الفقير عند الحديث عن السرقة.. بطوننا جائعة كما قلوبنا... لكن عيوننا ممتلئة..

هكذا هم البشر.. يدركون عيوبنا بينما يتغاضون عن مميزاتنا.. يعرّفوننا حسب أخطانا لا حسب أفكارنا.. اذا رأوا فضيحة تناقلوها و جعلوها نقاشهم الدائم... و اذا رأوا نجاحاً او مهارات غضوا بصرهم عن جمالها و وصفواالمميز بالعادي..

"يا ولدي.. لن تستطيع تغيير طبع البشر.. فلماذا يُثقل كلامهم كاهلك؟" تلك واحدة من أقرب حكم جدتي إلى قلبي...


و في المقابل كم من حمداً لله تقول في يومك؟.... بالنسبة لي هي أكثر كلمة تتردد في جوفي و على لساني... تنقذني من لوم الحال.. تكفيني لأعلم أن ما حدث هو بقضاء الله و قدره... و من ألطف بنا من رب العباد؟...







إقرأ المزيد من تدوينات دانية اسماعيل

تدوينات ذات صلة