و تمر الساعات كالدقائق , و إذ ما أبكانا يضحكنا , و ما أضحكنا يبكينا ...و ما قصد روحنا جعلنا أقوى ...

صوت مطر رعديّ متضارب مع خطواته الحائرة في الشارع يتبعها صوت السيارات المسرعة بجانبه مثل تيارٍ ولو حاول فإنه لا يستطيع التوقف .. و لا يمكن إهمال صوت الأشجار الصامدة في قلب العواصف , و كأنها أقسمت على عدم التخلي عن جذورها و لو اضطرت التخلي عن بعض أوراقها .. لم يستطع ضجيج الكون أو الأحرى موسيقاه ذات العبر أن يكون كافياً لإخماد صوت أفكاره المتشاجرة في ذهنه .. بل في كل كيانه فقوة الصدمة جعلت كل جزءٍمنه -سوا فمه الذي لم يحرك ساكناً - يسعى لإثبات براءته و نيل حقه و لكن من ذا يسمعهم غيره ...

جميع الأدلة المثبتة عليه جعلته يعجز النكار و يشك حتى في ذاته...

قبل سنتين ..

تخللت أشعة الشمس المتمردة من أطراف النافذة , حتى وصلت جفوناً فُتحت مفصحة عن جمال ما تخبئ من عيون .. تليها أصوات تأتي بنفس الترتيب كل يوم .. فيها لحن موسيقيٌ مميز, فكل بيت له موسيقاه الصباحية الخاصة ...

هتاف الأبواب العتيقة أذاعت خبر استيقاظ مالكها .. صرير السلالم ذات اللون البني المتشقق المؤدية لغرفة المعيشة أم من الأفضل القول غرفة الذكريات العائلية .. نوافذ البنايات و هي تُفتح .. راديو الجد محسن الذي لم يستطع الإعتياد على التقنيات الحديثة .. و أذكار الصباح .

نزل حفيد العائلة ذو الخامسة و العشرين عاماً من غرفته إلى المطبخ البسيط ذو رائحة الفطائر وهو يرتب أطراف شعره بيده .. و بالطبع بإبتسامة عفوية صباح الخير لكل مارٍ به .. جمع ما يجب أخده على عجلة و سمع آخر الأصوات الصباحية : صوت أمه تودعه و تدعو له بالحفظ و الصون و صوت باب البيت المرصع بالخدوش و هو يغلق مثل العادة , و لكن أحد الأيام تمرد و اختار أن يكون فريداً من نوعه .. و ليس كل فريد جيد .. تابع الوقت عمله بالمرور حتى وصل إللى الساعة التي اعتاد حسن على الوصول إلى البيت فيها .. الساعة الثامنة .. الثامنة و الربع .. و الثلث .. و النصف .. و لكن لم يعلن الباب وصول حسن حتى الآن , و ما من خبر عنه يُسمع ..

ثم حلّ هدوءٌ غريب.,. لم يستطع ذويه تحديد أهو هدوء ما بعد العاصفة أم ما قبلها , هدوءٌ قاتل يسحب الهواء من الرئة على مهم .. يتأكد أن كل قطرة هواء تؤلم ..

لم يكسر الهدوءَ سوا رنين الهاتف رنين الهاتف الغامض .. و كأنه يرن لأول مرة .. حماس موحش لمعرفة المتصل ...

-مرحبا , هل أتكلم مع قريبٍ للسيد حسن؟

- نعم، أنا والدته... هل هو بخير... ارجوك اجب بنعم...

- متأسف......

ركض الجميع لعرباتهم على عجلة.. أكانوا جميعا أصماء أم أن الكون أوقف أصواته عدا صوت الأم الذي لم يغير محتواه من اللحظة الأولى لسماع الخبر.. مع اختلاف في تردده بين الخافت و الصارخ..

لا يمكن... ليس هو.. ابني قوي... محال محال... ابني لم

يحاول الانتحار... لا يمكن....

والدته ( دعاء)

أضواء المشفى جعلت من الأمر أشبه بحلم أو حتى بكابوس مرعب مليء بالواقعية التي تحاول اقناعنا بوجودها.. خطوات أطباء قادمين تليها خطوات ممرضين لم يعطي أحد منهم أي خبر عن صغيري.. تلهفت أسماعنا لبشرى تنقذنا من عواصف مخيلاتنا.. تمينت لو أني أستطيع إيقاف الأفكار المفجعة التي سيطرت على كياني.. فاختار عقلي أن يباشر بأنفع المهام ألا و هي الدعاء.. رفعت يديّ طالبةً رحمة الرحمن.. بدأت طلباتي و أمنياتي بتعافي بنيّ حسن بالتراكم عند سقف حلقي.. ترددت للحظة.. و لكن سرعان ما تبادر لذهني أنك يا ربي على كل شيء قدير....

بدأ أحد الأطباء يمشي باتجاهنا... كهل طويل ذو مشية واثقة..

في تلك اللحظة أحسست أن المسافة بيننا و بين الطبيب تزداد.. ما عاد الوقت يمر و كأنه اختار الاستقرار في تلك الدقيقة.. و بعد احتضاري الصامت وصل الطبيب اخيرا..

ابنكم بحالة مستقرة الآن.. قاوم بقوة و لله الحمد.. لا أخفي عليكم فقد تعرض لكسور خطيرة و فقد الكثير من الدم.. و لكن سيتخطى ذلك بإذن الله...

استطاع الزفير أخيرا الخروج من حنجرتي المختنقة.. ابني سيعيش.. ابني سيعيش.. ابني سيعيش.. تجمعت أشلائي المتنافرة و استلمت القليل من القوة.. سيء ما حدث و لكن الله حمانا من الأسوء..

حسن

أصوات أتية من البعيد توضح شيئا فشيئاً... يخترق ضوء الغرفة جفوني مداعباً عيناي المنهكة مجبراً إياها على محاولة التركيز.. يدور المكان من حولي.. يتأرجح.. تحاول الصورة الثبات.. تستغرق وقتاً و لكنها بالنهاية تنجح.. و لكن لم يستطع عقلي حل الألغاز التي يطرحها على نفسه و يحاول إيجاد إجابة لها باليسر أو بالاجبار...

أين أنا.. ما الذي حدث... ما هذه الأصوات.. أين أنا؟؟؟

كردة فعل حاولت النهوض و لكن خانتني أطرافي.. خانني كياني.. ما استطعت تحريكه من يدي اليمنى و كتفي و جذعي أبرحني ألماً.. أنهكت أعصابي الهالكة... كأني أدخلت أسياخ نار حارقة بها..

و إذ بأيادي أمسكت أكتافي المتألمة يتبعها صوت رجل هادئ..." لا تجبر نفسك ما زالت جراحك جديدة" .. رفعت ناظري إليه.. و قرر الدوار مرافقتي ليغمى عليّ من جديد...

بعد عدة إسابيع..

دخل اضطراب قاسي غريب النوع إلى فؤادي.. أكنت أسيره أم هو كان أسيري لا أدري.. ربما قُدر لنا أن نكون سوياً رغم عدم رغبتنا ببعضنا..

عانت مشاعري الصدمة.. تبعثرت أحاسيسي و تلاشت أفكاري.. رغم كل الألم الجسدي من كسور و آلام كنت فقط أريد أن يصطحب الاضطراب الصدمة و يذهبا بعيداً عني.. أن تجد أعصابي فرصة للإنشغال بألم عظامي و أعضائي بدل اشغالها الدائم بعقلي و قلبي المتصدعين..

قيل لي أني أقدمت على زهق نفسي.. أنكرت.. بينت لهم أن ذلك محال.. و كيف لهم تصديقي و ذاكرتي محت آخر سنتين من تسجيلاتها.. هي الخائنة و ليس أنا.. ذاكرتي خانتني صدقوني أنا لم أخن جسدي.. لم أخن روحي..


مضت ٦ أشهر و أخيرا انتهى العذاب الجسدي و لم أتجرء سؤال نفسي متى ينتهي العذاب النفسي.. فقط أرجو أن تشفق روحي على روحي..

أول خطوة بعد تلك المدة بداخل بيتي كان لها طرب موسيقي خاص رائحة خاصة و بالطبع شعور خاص.. كم أراحني سماع لحننا الموسيقي الصباحي.. كم أعجبني مقدرتي على التحرك و لو كان مصحوباً ببعض الألم.. بكل خطوة كنت أحمدُ ربي.. و تعلوني فرحة عامرة عند استيقاظي بعد كوابيسي المرهقة لأجد سقف غرفتي فوقي لا سقف مشفى.. كنت سعيدا بعودتي حتى أني اعتدت الاضطراب داخلي...

ولكن كلما تجاوزنا الصعب يحين دور الأصعب ,بدأ عقلي من جديد محاولة حل اللغز من دون أخذ الإذن مني و وجدت نفسي أطاوعه.. بالعقل لا بمشاعري المتقلبة.. أيقنت أن حله واجبي.. أن معرفة ما جرى ليلة ٢٢ تموز مسؤوليتي.. بدأت ابحث عن طرف الخيط و بداخلي رعب كبير من المعرفة..

كلما حاولت تحفيز ذاكرتي المستسلمة وجدت نفسي أصل لحد الجنون و عدت.. كل مرة اصل حافة الجنون أستسلم و أعود بصداعٌ قاهر... نزاعي كل يوم بل كل ساعة أنهكني.. و جوعي لمعرفة الحقيقة يقتلني..

ثم أتى الوقت الذي لم أستطع فيه التحمل و أصبح العبئ ثقيلاً عليّ.. أشعر أن جدران البيت تخنقني.. نفسي يضيق كأني في قاع المحيط.. سحبت نفسي للخارج في ليلة عاصفة.. على أمل أن يغسل المطر أوجاعي.. أن تصمت أفكاري أمام ضجيج الكون و لكنها رفضت السكوت.. بل و ازدات قوة.. أمشي في الشوارع المزدحمة بدون تحديد وجهة.. او الأحرى أن الوجهة كانت محددة من قِبل أقدامي من دون ادراكي .. أستمر المسير بخطواتي الحائرة أتجاوز شارعاً تلو شارع، أعبر الزوايا و أحتضر بتمزقاتي..

ثم توقفت عن الحركة.. وصلت وجهتي.. أمامي المنحدر.. ذات المنحد الذي في ليلة ٢٢ تموز... ذات المنحد الذي مزّق جسدي.. حوالي ثلاثة أمتار تفصلني عن الحافة.. بدأت خطوة تلو خطوة مع أنفاسي المتقطّعة و لهثة قلبي و عيوني المتفحتة حتى آخرها بالإقتراب من الحافة.. لم أعد المتحكم بنفسي كأن شيئاً يدفعني في وسط الأمطار المظلمة.. ها أنا مرة أخرى على نفس الحافة.. نظرت حولي ثم نظرت إلى السماء و أجبرت نفسي للنظر للأسفل..إلى أن حدثت المعجزة المنتظرة.. إلى أن وصلت لمبتاغى إجباري لنفسي.. و أخيراً...

مر تسجيل تلك الليلة أمام ناظري... استعادت ذاكرتي الخائنة قوتها للمجازفة.. ثم وجدت نفسي أهمس : تذكرت... علا صوتي أكثر : تذكرت.. و تمتمت طوال طريق العودة : تذكرت..

عدت لبيتي مبتلاً.. أقفلت الباب و جلست على عتبته... و بعينيّ صدمة من نوع جديد.. أقبلت أمي و جلست أمامي.. نظرت لي باستغراب.. حتى همست : رميت بنفسي.. لم أشفق على جسدي.. لم أشفق على روحي...

انهرت باكياً أمام دموع أمي الصامتة و تابعتُ الكلام : كنت ساذجاً قاسياً.. كيف هانت روحي عليّ..

كنت عاجزاً ولكن هل يعتبر العجز مبرر... أيوجد مبرر للانتحار أم أن المبررات بريئة أمامه.. أردت إنهاء معاناة و إذ بي أبدأُ أخرى..


خريف قاحل يرمي ما بداخلنا من أوراق عتيقة ليجدد ربيعنا ليجعلنا ندرك الحقائق من وراء جميع الحرائق.. و ليس كل حريقٍ نار... فقد ينجح البرد بحرقنا.. و قد يقوى على النيران...

شكرا يارب.. على كل مشكلة وقعنا بشباكها و قلنا لايمكن لوضعنا أن يرجع إلى سابق عهده.. و قد خيّل إلينا ان سابق العهد أفضل... فأبهرتنا مولاي بالأجمل...

شكرا يارب... على كل نزف أتعبنا... أرهقنا.. و إذ انه خلصنا من سمومنا...من ما قد يرهق روحنا...

نعتذر يا مولاي.. عن كل صدع سببته ايدينا لنفسنا.. على كل لحظة استسلام في حين لا قنوط من رحمة الله..


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

بتجنن ما شاء الله 🥺❤️

إقرأ المزيد من تدوينات دانية اسماعيل

تدوينات ذات صلة