أيا ما كان الذي خطر ببالك عندما قرأت عنوان المقال، سيتغير بعدما تنتهي من قراءة متنه، ما هي إلا دقائق لتتأكد أن الوقت لغز، وحل هذا اللغز هي الذكريات.
الوقت.. أحد أكثر أسرار هذه الدنيا الداعية للحيرة والتي تستحق التأمل حقا.. لا أظن أن هناك أحد قد استطاع أن يحل لغز الوقت هذا أبدا.. لكن في البداية وقبل الحديث عن جماله ومساوئه دعني أخبرك أولا لم الوقت يعتبر لغزا؟! متى آخر مرة قد نظرت فيها للساعة؟ أكاد أجزم أن إجابتك هي " لا أذكر " إما لأنك تنظر إليها أغلب الوقت بحركة لا إرادية منك، وإما لأنك تنوي النظر إليها ولم تفعل عندما قامت أحد الأشياء الأخرى التي تحيط بك بشغلك عنها وأنستك النظر إليها..
قل لي هل تذكر آخر مرة انتظرت فيها موعد محدد الوقت وخشيت أن يفوتك؟ إن فكرت الآن معي لجزء من الثانية ستجد أن هناك العديد من المواعيد التي كنت تنتظر قدومها إما بشغف للوصول إليها، أو بضجر لأنك مجبر على إيفائها ليس إلا.. ستجد أيضا أن جميعهم مروا كأن لم تكن موجودة من الأساس، لم تترك سوى ذكرى سواء أكانت جدية أم سيئة.. وهناك ما لم يترك ذكرى أيضا.
المذهل في الموضوع والذي يجعل من الوقت لغزا حقيقيا؛ أنه رغم أن الوقت ذو مقدار ثابت من الناحية الكمية أي من حيث عدد الساعات في اليوم والدقائق في الساعات والثواني في الدقائق وهكذا.. إلا أنه من الناحية الكيفية غير متساو البتة! ففي بعض الأحيان تشعر وكأن الدقيقة تمر متثاقلة الثواني بدرجة تجعلك تظن أنها لن تمر أبدا.. في حين أن الدقيقة التالية للدقيقة التي كنت تنتظر إنتهائها ومرت متثاقلة تمر تاليتها بسرعة أكبر، حتى أنك في معظم الأحيان لا تدرك أنها مرت من الأساس سوى بعدها بنصف ساعة مثلا وربما أكثر.
دائما ما يقال أن الوقت كفيل بدمل الجرح مهما كان حجمه أو الألم الذي يسببه ، سواء كان جرحا ملموسا أو كان نفسيا فهو في الحالتين لا يحتاج سوى للوقت ليشفى، كغيره من الأشياء في هذه الدنيا بالطبع سيترك أثر لكن دون أن يؤلم..
يعتمد مرور الوقت وكيفية مروره إما سريعا أو بطيئا في معظم الأحيان على أحوالنا والشيء الذي نقضي فيه ذلك الوقت.. فمن منا لم يعد الدقائق والثواني في المدرسة أو الجامعة، طامعا في إنتهاء الدوام أو المحاضرة التي أنت مطالب بالتواجد فيها، حتى وإن لم ترغب في ذلك.. ومن منا أيضا لم يتفاجئ بانقضاء الوقت أسرع من المعتاد في جلسة تجمع العائلة أو الأصدقاء تملؤها البهجة والراحة النفسية، الشخص الذي تشاركه الوقت أيضا من أهم أسباب تغير كيفية مرور الوقت، الساعات تتسرب من بين أصابعنا عندما نذوب بين صفحات كتاب نحبه أو ممارسة لعبة نفضلها، ويصعب علينا الاحتفاظ بها كأنك أخذت حفنة ماء في قبضتك وتسربت منها قطرة خلف قطرة بلا أن تجعلك تدرك ذلك.. لحسن الحظ مكنتنا الصور من حبس بعض اللحظات وايقاف الوقت عندها، فكلما نظرت للصورة أعدت الحياة لتلك اللحظة التي أخذت فيها .
لتلك الأسباب الوقت من أكثر الألغاز المحيرة التي تحمل في جعبتها الكثير من العجب.. من أهم ميزات الوقت الذي يمر متسرعا عندما تفعل ما تحب أن تلك الأوقات حتى بعد مرورها تظل ساكنة لذاكرتك بتفاصيلها وأجزائها، وترسم بسمة رضا في روحك قبل أن ترسمها على شفتيك، تحب أن تبعثر المواقف والأيام أوراق ذاكرتك لتطفو هذه اللحظة التي تجعلك تبتسم بدون سابق إنذار حتى إن كنت تسير وحيدا في شارع مكتظ بالمارة، فيظن من حولك أنك أحد المجاذيب رغم هيئتك المهندمة التي لا توحي بأنك فاقد لعقلك .. لكن هذا أيضا يجعل من تلك اللحظة لا تنسى رغم بساطتها وأنها لم تسرق من ساعة عمرك الرملية أكثر من حبة رمل واحدة.. دائما ما يكون الماضي ذو سحر يجعل منه مختلفا عن أي حاضر.. فيه شيء يجعله ذو طابع خاص ألا وهو أنه أصبح من تلك الذكريات..
الذكريات التي تبقى معنا هي أوقاتنا الحلوة ذات الخطوة المتسارعة لدقات عقاربها ذات اللحن المعتاد الذي يعلو ويهبط بناء على حالك أنت ومع أي شخص تكون.. ربما العيب الوحيد للغز الوقت هو هذا الغموض الذي يحفه وأنه في كثير من الأحيان يجعله ذلك الغموض يختفي دون أن نشعر تماما كلص ماهر في الاختباء.. ورغم ذلك يظل غموضه ميزة من ميزاته في نفس الوقت فكل شيء ذو قيمة يحمل جزء من الغموض في أحد طياته..
أوقاتنا وأحلامنا وكل ثانية من عمرنا تمر لها قيمة ، فأحلامنا ترسم الطريق، والحلو من أوقاتنا يساعدنا على المسير فيه ، والمر منها يرسم الصعوبات التي تتخل هذا الطريق، ليأتي الدور عندها على ذكريات أوقاتنا الحلوة لتعيننا على تخطي تلك الصعوبات مهما كان مقدارها.. وهكذا تتداخل أوقاتنا، الحلو منها بالمر فلا تستطيع أن تفصل بين أوقاتك مهما حاولت ذلك.. خطوط أوقاتك المتقاطعة هي التي ترسم لوحة حياتك بتداخلها بعضها ببعض، حتى وإن بدت لك مبعثرة في حاضرك، سيبرز جمالها عندما تمسي جزء من ماضيك.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات