عالم مليء بالمسؤوليات والمهام، يصيدك فتصبح من قاطنيه قبل أن تدرك ذلك حتى.. أصفه لك بدقه من داخل أسواره.. كن متأكدا أن السطور القادمة ستلامسك عن قرب.

بحروف رسمت بريشة قلم حبر سائل أفكر.. لكن فيم أفكر..!؟ أفي ما علي الإيفاء به في موعده، أم فيما أحلم به ولا أجرؤ على لمسه بأناملي!.. أفكر وأبحث وأتأمل.. كل ما أحتاجه هو علامة واحدة فقط.. علامة تدلني على السبيل ليس إلا..




لكم يصعب علي أن ألاحظ أنني أكبر في السن فلم أعد من أصغر الموجودين بل ربما أكون أنضج من كثير منهم.. أعترف أن لعب دور الكبير يكون ممتع لكنه في نفس الوقت صعب للغاية.. أن تكون أنت صاحب المسؤولية الأول ومرجعها دائما.. ألا تتمكن من الوقوع في الخطأ.. فأنت الأكبر..!



أن تكثر من قول:-" قديما ، وعلى أيامي، أو حدث لي في أحد المواقف كذا وكذا.." أن تصبح تتكلم بتلك الطريقة الواعظة التي كنت تمقتها في صغرك.. حتى عندما أحدثك الآن أقول لك في صغرك وأشير إلى تلك الفترة وكأنها صارت من التاريخ!!



أعترف أنني دائما كنت أحلم بأن ألعب هذا الدور فله من الهيبة والجمال قدر لا يمكن إنكاره لكن قلبي مازال قلب طفل صغير كما هو لم يتغير.. ولا أظن أنه سيتغير..




حتى قلم الحبر الذي يخط هذه الكلمات لم أكن أحبه في صغري وكنت أراه أداة الكبار ويصعب علي الكتابة به.. في حين أصبحت أرى أنه الشيء الوحيد الذي يعطي الكتابة جمالها ومتعتها، حينما أراقب كيف يخط سنه الحروف بأشكالها الغريبة في هيئتها بخط الرقعة الذي كان يصعب علي فك طلاسمه قديما وأصبح رفيقي منذ أدركت حبي للأقلام والأوراق وكلماتهم..



حتى لمعة آخر نقطة تركها الحبر على حافة الكلمة تكون جميلة وساحرة وذات بهاء آسر.. هي وحدها تكفي لتجعلني أخط به مجلدات عملاقة ليس مجموعة أوراق فقط..




أصبح من الغريب علي أن أتحدث هكذا كما الكبار والإقتناع بأني صرت منهم فعلا!! قد ضحكت كثيرا عندما سألني ذلك الطفل إن كنت من الكبار! لكنني لم أدرك أن ذلك الصغير لفت نظري لما لم ألحظه وأنا أركض كل يوم خلف أحلامي المتجددة كنور الشمس بكل صباح.. وبت ألاحظ أنني أصرخ وأثور على الأطفال عندما يلهون حولي ويصدرون ضجيجا.. أصبحت أشكو أنا أيضا من ضغط الدراسة والعمل والمهام التي علي إنجازها.. أصبحت أكتب قائمة بما علي فعله فأجدها كلها أشياء مهمة جدية ومن اختصاص الكبار! قديما كنت أكتب هذا النوع من القوائم من ضمن ألعابي وكنت أخط فيه بعض "الشخابيط" التي لا معنى ولا شكل لها فقط لمجرد رغبتي في أن أشعر أنني كبير.. عندما كانوا يقولون لي أنهم يتمنون لو يعودوا صغارا مرة أخرى لم أكن استطيع فهم مقصدهم أبدا فكنت دائما أحسدهم على عيشهم في عالم الكبار المملوء بالمسؤوليات والإثارة والتشويق.. وأنا سجنت في عالم الصغار الذي لا يمكنك القيام فيه بشيء سوى أكل الحلوى واللعب ومتابعة برامج الأطفال التي تصير سخيفة بمرور الوقت وتحسن إمكانيات الرسم والتحريك.. لم أكن أعرف أي ساذج كنته..



لكم هو غريب أن أجد نفسي تتكلم بهذه الطريقة وكأن كل ما ينقصني هو الجلوس في شرفة ما واحتساء فنجان من القهوة وقراءة كتاب يراه الصغار مملا لأنه لا يحتوي على صور أو قصص مسلية.. لحظة واحدة! بالفعل قد غدوت ذاك الشخص الذي يفضل عادة الانعزال عن العالم بقلمه وأوراقه وفنجانه الذي صار رفيقا لدربه فلا ينفك أن يبتعد عن يده إلا ويعود إليها بعد أن ملئ بالقهوة مرة أخرى..


لم أكن أعلم أن بداية لعنة حب القراءة ستصيبني بعدما بدأت قراءة القصص الطريفة والمقالات الساخرة الخفيفة حتى تتحول فيما لقراءة روايات مسلسلة طويلة وكتب علوم الانسان الجدية التي يراها معظم الناس مملة وتستجدي النعاس!




قد أخدت من عالم الكبار أحد أسوء ما فيه من صفات.. صرت مرهقا ومتعبا لحد لا يوصف.. تغتالني الأحلام السخيفة والكوابيس في الليل من الإرهاق، ويعيد الله بعثي مرة أخرى صباحا على صوت نغمات منبهي الذي أهرع لإغلاقه قبل أن يوقظ أحدا آخر بنعيقه المزعج.




لا أعرف متى بدأت أنظر للناس والشوارع نظرة ناقدة فاحصة فلسفية أثناء مروري إلى جوارهم أو عبرهم إن صح التعبير.. لكنني أوقن أنه كان نفس الوقت الذي تخليت فيه عن القفز بين الأحجار في الشوارع وقراءة لوحات المحال المضيئة فوق رأسي وأصبحت أسير غير آبه بما حولي وكل ما أنظر إليه هو طريقي حيث أسعى أن أصل لنهايته في الموعد وألا أتأخر..


منذ أن أصبحت أكتب هكذا بدون سطور ولا تهبط كلماتي وتحيد عن سبيلها، منذ ذلك الحين دخلت عالم الكبار.. الذي لا أجرؤ فيه أن أقف وسط الطريق وأطلب من بائع حلوى القطن -غزل البنات- أن يعطيني مما يبيع لأن طول قامتي لا يسمح لي بذلك.. وأنني آخذها ذريعة كلما زارنا طفل أو أي صغير لم يصبح من قاطني عالم الكبار بعد، أن آخذه لأبتاع له الحلوى فيظنني كريما سخيا معه في حين أني كنت أرغب في شراء الحلوى لنفسي من الأساس لكنني لم أجرؤ على القيام بهذه الجريمة البشعة التي يعاقب عليها عالم الكبار بأن يصف فاعلها "بالهيافة".. تلك الوصمة التي لطالما هابها العراب -أحمد خالد توفيق- عندما كان يرغب في قراءة "مجلة ميكي" لكنه كان قد وقع هو أيضا ضحية لعالم الكبار الذي أحدثك عنه الآن..




لا استطيع إنكار أن هناك ميزات كما العيوب في عالم الكبار لكني لن أقصها عليك الآن لأني ببساطة نسيت معظمها بسبب كوني أحد قاطني هذا العالم! فهذه سمة لا تستطيع الفرار منها فيه.. وهذه النظرة التشاؤمية السوداوية كذلك، لكن هذه الأخيرة من الممكن أن نحيلها للاكتئاب الموسمي الخفيف الذي يزول بقطعة حلوى تأكلها، لذا يصعب محوه وأنت في عالم الكبار لأنك لن تستطيع الظفر بتلك القطعة لأنك ستصرف قيمتها فيما هو أكثر أهمية من قطعة حلوى وإلا وصمك المحيطون بك "بالهيافة"!


كثرة التفكير هي ما تفعل بي كل هذه الأفاعيل التي لا يمكن وصفها بالمحمودة أبدا.. لذا سأغلق فم هذا القلم الثرثار وأعود لضغط الدراسة والعمل وأترك هذا المقال هنا صامتا إلى جانب زملائه من كتاباتي حتى تحييه عيناك القارئة له.




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات داليا أحمد

تدوينات ذات صلة