أجملُ كتابٍ ما خُطَّ في مطلعهِ إهداء .. أهدي هذا إلى رجالٍ قضَوا نحبهم وخَلَفت من بعدهم مريم ... إلى مَن تجد في نفسها مريمَ القادمة...

وتجري السنونَ والسنوات، ويعقبُ اللّيل النّهار، ويفصح الصّبحُ عن ابتسامةٍ خجلى، عبق الكراوية قد لفَّ أرجاءَ الحيّ ،معلناً عن مولدٍ جديد، مثبتاً في كل مرة كيف تخرج الثّورة من رحم الأسى....ربِّ إنّي وضعتُها أنثى..أنثى هيَ الثّورة بل ثورةٌ هي الأنثى، وإنّي سميتها مريم.

أيُّ كرامةٍ تلك التي حظيت بها مريم لتتوج سورة قرآنية باسمها دون بني جنسها، مريم....لو رَجعنا إلى المعاجم العربية أو حتى الفارسية و اليونانية، لوجدناه قد اشتمل على أسمى معاني السيادة والقداسة والعذرية ،قد يسمي المسلمون أو المسيحيون فتياتهم بهذا الاسم ، ولكن لا يفضلُ بنو صهيون ذلك، وكأنَّ اسمها أبى أن يُحتلَّ أيضاً . مريم .... هي ابنة تلك الأرض.. هي من صُلب الناصرة الأبية، تلك المدينة الفلسطينية التي نُسجت ثنايا جدرانها من العِصيان والتمرد ، وقد كان لمريم نصيبُ الأسدِ من ذلك .

١٩٨٨ م .

نذرٌ محرر ..... الجزء الأول ( سلسلة روائية ) 64245360377510056



١٩٨٨ م .


عامٌ على الانتفاضة الأولى، عامٌ على رحيل عبد الله و المُعتز ، كلُّ ما في تلك البقعة يشهد، يشهد الزيتون كيف فارقت الروحُ الجسد ، يشهد الحجرُ كيف لقلبٍ أن يصبح أشد قسوةً منه ،يشهد أهل السماءِ وتشهد الجبال ويشهد كلُّ ما يطأُ الأرض ،ويشهد الحاضر ليُخبرَ المستقبل و يأبى التاريخُ أن ينسى و يُطرِق.

هي ذات الرحم التي أخرجت عبد الله والمعتز ، ها هي اليوم تُعلن عن أختٍ شاءت لها الأقدارُ أنْ تكونَ ذكرى أخويها هي فقط ما يسرده أهلُ بيتِها، لم تحظَ مريم بفرصةٍ لتنسج ذكراها الخاصّة عنهما، أو حتى لِيكونَ لها ما تُحدّث به عنهما .

ويحدثُ أنْ قد مرّت سنون جرداء،عواقر لا تلِدن، كالجنَّة بلا أُنس، كالنّار في الهشيم ، أشلاءُ هُنا وهُنا، تقاعسُ وانكسارات، استنكار تلوَ الاستنكار يتبعه تخلٍ و انكار .

ويحدث أن قد طُهِّرت على نساء العالمين ، ورُفعت مكاناً في عليين، هي مريمُ ابنة أبيها وأختُ الرِّجال وعنفوانُ الإناث ، فلا أنوثةَ تُضاهي أنوثتها ، وما الأنوثةُ إلّا كما مريم.

وتلك الأيامُ نُداولها بين النَّاس، فإذ بها كاملة!....قالوا ومَا الكَمال؟! قُلنا الكمالُ واسمُها مترادفان.... عندما تُحدِّق في ملامحها ترى أنّ كلَّ شيءٍ قد اختير بعناية ..بعناية إلهيَّة.. قد ورثتْ الأجمل من كلِّ شيء...شعر أمِّها المنسدلِ على كتفيها بانسيابية وكيفَ ينبِض باللّون الذّهبي حينما تلمَح الشمس شيئاً منه، ولا يحتاجُ الأمر سوى إلى ظفيرتين لتبدوَ كشخصيات القصصِ الطُّفولية... أمَّا فيما امتكلت العينان، فيبدو أنَّ البحرَ قد كان هائجاً في ليلةٍ عاصفة فارتسمتْ عيناها بخيوطِ مَوْجِهِ -كما تقول الأسطورة- يظلُّهما زوج رمشٍ أصيل .

ترعرعت صغيرتُنا في بيتٍ طابعهُ البساطة ، يقتاتُ ساكنوهُ الخبزَ إنْ وُجد ويُطعمونَ الطّعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ،يتجرَّعون العزّة منذ نعومةًِ أظْفارهم كما الحليب . لم تزعزع كيان ابنتنا صيحاتُ الموضة كما تفعل صيحاتُ المُقاومة ....

وقالَ نسوةٌ في المدينةِ : من ذا الذي يأتينا بأجملهنَّ وأعقلهنَّ، من هي أجمل الجميلاتِ ، من التي لو وطأت أرضاً ازيَّنتْ وأخذتْ زُخرفَها؟... فما تلبثُ الأيادي أنْ تشير ..تلك هي مريم ...

يتبع........


إقرأ المزيد من تدوينات لجين إسماعيل

تدوينات ذات صلة