كان حلمها دوما تأسيس أسرة سعيدة، لكن الأقدار شاءت أن تبلغ السابعة والعشرين دون عمل، ودون زواج أيضا،
عند الراقي!!(قصة قصيرة)
حدث ذلك عندما التقينا بعد سنوات في احدى حفلات الزفاف، كنا ثلاث صديقات من مرحلة الثانوية (سعاد، عائشة وحكيمة كان اسمي)، فرقت بيننا الحياة والمشاغل، فقد أصبحت أنا مدرسة ولي ثلاثة أطفال، وسعاد أصبحت ممرضة ولديها طفل، أما عائشة فتخرجت من كلية الاقتصاد، لم تجد عملا، لذا لجأت لتحفيظ القرآن،
كان حلمها دوما تأسيس أسرة سعيدة، لكن الأقدار شاءت أن تبلغ السابعة والعشرين دون عمل، ودون زواج أيضا،
صديقتنا تلك كانت جميلة جداا، لذا استغربنا عدم زواجها حتى ذلك الوقت، وسألناها عن السبب،
فأجابت:- (نصيب).
لم تبد بائسة أو تعيسة، كانت لا تزال تحتفظ ببريقها ورونقها، وابتسامتها العذبة،
لكني وسعاد تواطأنا من خلال حديثنا لدفعها كي تزور الرقاة، وأمطرناها بقصص سمعناها عن السحر والعين وتأثيرهما على ربط الفتاة عن الزواج.
جالسين إلى المائدة الكبيرة المضاءة والعامرة بشتى الأطباق اللذيذة، وانطلق نقاشنا المحموم آنذاك حول سحر الربط والرقاة الجيدين،
لكنها لم تأخذ كلامنا بمنتهى الجد، وكانت تتهرب، وتود كل مرة تغيير الموضوع.
- العين حق، قلنا لعائشة، والسحر موجود، لا تستهيني بهذا الأمر.
محتفظة بابتسامتها وهدوءها وعيناها لا ترتفعان عن الأرض،
قالت:- حسنا، بما أنكما تصران على جعلي محور الحديث هاته السهرة، استمعا إلى تجربتي وقناعاتي في هذا الموضوع، سأحكي لكن ما حدث معي العام الفائت.
حينها خمدت حماستنا فورا، وبعيون يائسة وحزينة من أجلها، كانت وجوهنا المترقبة تقول((سحقا)) ما أتعس الجميلات، كما لو كان الجمال حظهن الوحيد من الحياة.
تابعت عائشة كلامها قائلة:
أعيش رفقة أسرتي الصغيرة في منزل متواضع، وأنا الفتاة الوحيدة ضمن أربعة ذكور.والدتي كجميع الأمهات لم تنفك تتعجل أمر زواجي، رغم أني وحيدتها، وكانت قلقة بشأني كثيرا، ولطالما توسلت والدي أن يطوف بي الرقاة، لكن والدي كان يرفض الأمر رفضا تاما، ويغضب اذا حدثته بالأمر، وهذا لاعتقاده الجازم بأن غالبية هؤلاء دجالون، يقتاتون على أوجاع وهموم الناس.لذا يبدو أنها تواطأت مع زوجة أصغر أعمامي، من دون علمي، ودبرتا لي زيارة إلى بيت عمي الذي يقطن بولاية أخرى غير ولايتي، هي ولاية سيدي بلعباس، وذلك لقضاء بعض الوقت.
عمي "علي" هو أقرب أعمامي لقلبي، لأن فارق السن غير كبير، فهو شاب مرح، اضافة أنه يفهمني ويستمع إلي دائما.وهو إلى ذلك يملك سيارة جميلة، وكلما زرته في منزله، يأخذني وزوجته لأماكن جميلة دائما.
كان الفصل ربيعا عندما قرر عمي"علي" أخذنا إلى شاطئ الأندلسيات في وهران لنستمتع بجوار البحر...كان الموعد بعد صلاة الجمعة، حزمنا أمتعتنا وانطلقنا...
بعد نصف ساعة كان الوصول..كانت آثار برد الشتاء لاتزال موجودة لذلك لم نجد أحدا هناك...وانفردنا بصحبة البحر...مشينا وتسابقنا وأكثر من ذلك غطسنا بكامل ثيابنا في البحر،
لا أحد يستطيع مقاومة الإغراء أمام جمال المياه ودفئها...تبللت ثيابنا فمكثنا مدة حتى جففتها الرياح ...
بعدها سارت بنا السيارة في طريق آخر...كنت منهمكة في التأمل ولم أعرف إلى أين الوجهة القادمة...وصلنا إلى مدينة "بريقو" المحمدية في معسكر قبيل آذان المغرب..كانت ستائر المطر معلقة بين السماء والأرض وقد غسلت ثمار الرنج المنتشر في كافة شوارع المدينة...
سألت عمي قبلها إلى أين الوجهة؟!فأجابني:(بريغو)المحمدية..
- من سيدي بلعباس الى وهران الى معسكر، هل هنالك خطب ما؟!
ضحكات صفراء خبيثة من زوجة عمي:
- أخفينا عنك السبب الرئيس لرحلتنا اليوم...نتوجه لزيارة راق معروف في مدينة المحمدية... لو كنت أخبرتك، فستقولين حرام.
عمي بضحكة متواطئة أيضا:
- هذا راق ممتاز كان دكتورا في بريطانيا، سلفي ومثقف...لا تخافي ليس دجالا_ وكلمة سلفي هي لفظ يطلق من العوام على كل من يلبس قميصا ويربي ذقنا حتى لو كان هذا الأخير طرقيا!!
- وهل خلت بلعباس ووهران من الرقاة حتى تأتوا إلى معسكر؟!
- جربنا كل أولئك الرقاة، ذهبنا إليهم واحدا بعد الآخر، لم نترك بلعباس...ولا وهران..ولا مستغانم.
سرحت بخيالي أفكر، ثلاث ولايات طافوا بها وجربوا كل رقاتها الذين سمعوا عنهم، ما الذي يدفعهم إلى تبديد أموالهم وأوقاتهم في هاته الأعمال؟!
ثم ماذا ينقصهما؟؟! ومم يشكوان؟!
فقد عهدت عمي وزوجته زوجين من أسعد الأزواج، كان لديهم بيت جميل، وسيارة وأموال وابن صغير، وكانا إلى ذلك بشوشين فرحين طوال الوقت، ويستمتعان بالحياة والسفر والتنقل من مكان إلى مكان..
ظاهريا وماديا لم يكن ينقصهم شيء...لكنهما لم يكونا من المصلين، ولا ممن يحافظون على الطهارة أو قراءة القرآن…كان الحزن يلتهمهما التهاما من الداخل، والخواء يصفر تصفيرا مزعجا بأذنيهما، وكان الوسواس والقلق ينخر بقلبيهما...فيحفر عميقا عميقا.ً..
اتصل به ليعلمه بوصولنا، فخرج شاب في مقتبل العمر وفتح لنا الباب...أدخلنا في صالة الضيوف...بقينا نتمتم فيما بيننا...إلى أن حضر الشيخ الجليل...
شيخ قصير القامة...كث اللحية...يلبس البياض...رغم سنه الذي قارب الستين ربما ، إلا أن حركته وخطواته كانت رشيقة مثل خطوات قطة ...له عينان زائغتان، وتتحركان كثيرا يمنة ويسرة بشكل غير مريح للناظر اليه...
سألته عن القبلة...فأشار بها علي ، ثم تركنا وحدنا... صليت المغرب دونهما...واستأذن هو كي يصلي أيضا...ثم ما لبث أن عاد..
- انتظرتك من بعد صلاة الجمعة على حسب الموعد الذي اتفقنا عليه، أجلت كل أعمالي من أجلك.
أطرق عمي رأسه خجلا، وتوردت خدوده من فرط الحياء ثم أجاب:
الله المستعان، مشاغل ومسؤوليات ..عاقت مجيئي في الوقت.
(مشاغل، ومسؤوليات!!)أفكر بيني وبين نفسي ، نعم... فعمي والكلمة خطان متوازيان لا يلتقيان ولا يتوافقان ، فلطالما عرفته شابا كبقية شباب هاته الأيام،
لكن ليس إلى تلك الدرجة!!ليس إلى درجة موعد مع شيخ!!شيخ مسؤول وإمام مشغول وراق مقبول!!
مشاغل!! كم ضحكت من تلك الكلمة، فموعد مع محبوبته على البحر من دون تخطيط، كان أهم من كلمة مع من يفترض به أن يكون الشيخ والراقي والإمام!!
بعدها طلب من عمي التمدد على أريكة مقابلة وأخذ يقرأ عليه ما تيسر من القرآن..الشيخ يقرأ وعمي يتخبط في مكانه ويتحرك بحركات *إرادية* طبعا... ليضفي جوا من الوهم والتمارض...
كان الشيخ حين ينتهي من مقطع، يسأل عمي عن شعوره...فيتظاهر الأخير بالدوخة والغثيان وتنميل في الأطراف...
يطمئنه الشيخ وينصحه بقارورة باهضة الثمن تحوي خليطا من الأعشاب مع عسل النحل...وأن يدهن يزيت الزيتون المرقي...
يأتي الدور على زوجة عمي، يقرأ عليها في مكانها من دون أن يلمسها ويسألها هي الأخرى فتقوم بعمل" نسخ- لصق" لكلام زوجها وتزيد عليه قليلا.
عندما انتهى منهما، وجه إلي سؤاله مستفسرا إن كنت مريضة مثلهما وأريد الرقية...أجيبه بالنفي. حينها تتدخل الأفعى- زوجة عمي وصديقتي المقربة - قائلة:
- أرجو أن تقوم برقيتها شيخنا، هذه الفتاة لا تؤمن بالرقية، ولو تسمع خبرها لرثيت لحالها، المؤكد أنها مصابة بعين أو سحر، لذلك تخاف من الرقية والرقاة!!
توجه الي الشيخ بسؤاله:
- ألا تؤمنين بالرقية؟!
- قلت: بلى شيخ أؤمن بها، لكنني بخير، وأنا لا أؤمن أن كل شوكة يشاكها الإنسان تكون من أثر العين والسحر...
الشيخ مستفسرا زوجة عمي- وكأنني أحتاج إلى وصي ينوب عني في الكلام- أحسست وكأنني قاصر يحتاج الوصاية أو مريض يحتاج العناية أو طفلة تحتاج الرعاية- -:
- مم تشكو؟!
- الخطاب يأتون ولا برجعون، خطبها كثيرون، لكن لا أحد قرر العودة بعد الرؤية الشرعية-
وهما يتكلمان عني أحسست فعلا بالقهر، أحسست بالضعف، وأحسست وكأن بي عاهة في باطني...كان حالي كمن كذب كذبة وصدقها وعاش فيها...فقد عشت الدور....أيعقل أن يتأثر العقل الباطن بما يراد له ويتصرف وفقه...فقد تأثرت فعلا بكلام زوجة عمي رغم أنه لم يكن صحيحا ...فمسألة سلوك الخطاب وعدم عودتهم كانت منطقية جدا...خصوصا وأن الرفض كان يتم عبر أهلي....فأنا كنت أقبل بأي خاطب.... علمتني أمي وأنا صغيرة أن من ترد الخاطب الأول بدون سبب تحل عليها اللعنة بسبب دعائه عليها...لم أتربى على الخرافات أو الاعتقادات الباطلة...لكن مقولة أمي كان فيها الكثير من الصحة لذا جمعت بينها وبين شرع الله وخرجت بنتيحة أن الرفض اذا كان بدون سبب...فستندم صاحبته بعد ذلك وعليها أن تحسن الظن بالخاطب وتعطيه الفرصة حتى تتبين تدينه وأخلاقه.
كنت أقبل بأي كان وأكتفي بالاستخارة، وكان أخي مشكورا يقوم بالتقصي والسؤال، إلى أن يصل إلى قناعة مفادها أن الشخص غير مناسب.
الشيخ يحملق في مباشرة مستغربا :
– آه لو رآك أبي كان سيمسح بك الأرض ، كيف تجرؤ على النظر إلي مباشرة؟! - أقول في نفسي-
- كل هذا الجمال!! ولايوجد نصيب؟؟؟
- آخ لو سمعك أخي كان سيذبحك من الوريد إلى الوريد، كيف تجرؤ على نعتي هكذا؟!
- الواضح أن كلامهم صائب، وأنت غير مدركة لما يحدث معك، تعالي اجلسي هنا..
- شيخنا، لا أشكو من شيء..الحمد لله.
- أنت لا تدركين الأمر، لو كنت ملكة جمال العالم ووضع لك سحر لحجبت عن جميع الرجال...كنت ستبدين لهم بمثابة شيطان..
سرحت في كلامه و ورحت أتخيل أن لي قرني شيطان، وأن وجهي يحمل بشاعة الكون كله...ندوب وتقرحات مخيفة وعين مشطوبة ...وعصابة قرصان...يا إلهي!! أخافني مجرد التخيل...هؤلاء الخطاب مساكين حقا ...إنهم يفزعون من رؤيتي كل مرة...سيلاحقهم طيف بشاعتي كل حياتهم...وربما كرهوا كل النساء بسببي...في المرة المقبلة لن أدع أحدا يراني حتى لاتعذبه صورتي...
أفقت من سرحاني على أوامر الشيخ:
- تعالي يا بنيتي
قعد قبالتي ثم رأى خجلي فأخذ يسألني بصوت خافت..
- هل تأتيك كوابيس في الليل؟
- لا
- هل يؤلمك رأسك عموما، وبالخصوص وقت العصر
- لا
- هل تعانين ألما أسفل الظهر، أو تساقطا للشعر
- لا
تمعض وجهه فجأة يبدو أن أجوبتي لم ترقه، فتلك كانت أعراض سحر الربط عن الزواج وأنا بددت له شكوكه...((كنت محصنة ضد الدجل والدجالين وأميزهم من خلال علامات معينة، ففي وقت مبكر جدا قرأت كتب الشيخ وحيد عبد السلام بالي - كتاب الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار- وكتاب وقاية الانسان من الجن والشيطان- وذلك قبل سن الخامسة عشر، قرأت كتبا كثيرة في حياتي بعد ذلك لكن الكتب التي شكلتني وشكلت معتقداتي وتلك التي أتذكرها من دون غيرها هي الكتب التي قرأتها في الفترة ماقبل سن الخامسة عشر...كنت عجينة طرية وتلك الكتب شكلتني في قالب صحيح.))
أخذ يقرأ علي بعض الآيات القرآنية وكان متقنا لأحكام التجويد، وأصدقكم القول أن صوته بالقراءة كان مثل المقرئين، لذلك استبشرت خيرا
انتهى من قراءة دامت أكثر من ربع ساعة، ثم سألني:
- هل تحسين بشيء؟!
- لا
- ألا تحسين بتنميل أو خدر؟!
- لا
ازداد وجهه تجعدا هذه المرة أيضا ثم واصل القراءة وكان كل مرة يسألني فيها أجيب بالنفي...
حينها تمتم بكلام غير مفهوم ثم شرع يقول:
- ادخلوا يا عباد الله
- ادخلوا يا عباد الله المؤمنين
- ادخلوا في هذا الجسد المؤمن
انتفضت من مكاني، وقلت له بنبرة خائفة و مرعوبة:
- بارك الله فيك شيخنا، الحمد لله، يبدو أنني لا أعاني خطبا ما.ثم أومأت لعمي بأنه يجب علينا الإنصراف
ارتعب عمي من كلام الشيخ، وهيئتي المرعوبة وأبي الذي لايعلم شيئا عن هذا الموعد، ولأول مرة في حياته أحس أخيرا بالمسؤولية، وكلم الشيخ موضحا له أننا تأخرنا، وأن موعدا هاما بانتظاره...
- صرتن مدركات الآن، (عمي لديه مشاغل!! ).
وسكتت عائشة،
فانفجرت وصديقتي نسألها:
- والمغزى من كلامك، ربما هو دجال مثلما ذكرت، لكن يوجد رقاة حقيقيون، ألا تؤمنين بالعين والسحر؟!
أجابت وابتسامة تعلو ثغرها:
- أؤمن بالعين، فهي حق، وأؤمن بالسحر أيضا، وأؤمن بعالم الجن، وأنه يتلبس الإنسان، لكنني لا أؤمن بالوهم.
ثم أردفت سعاد قائلة:
- ماذا حدث بعدها، هل أصابك مكروه؟!
تنهدت عائشة كمن تخلص من حمل ثقيل، ثم قالت:
- مكثت بعدها عدة أشهر وأنا أتخيل أن عائلة مكونة من سبعة أفراد ربما ، ستتلبسني يوما ما...فيبدو أن أزمة السكن شاملة لعالم الجن أيضا، والدليل أن هؤلاء اعتدوا على أجساد نصف الجزائريين!!
#شمس_الهمة
التعليقات