الأحلام ليست تلك التي تحاول تذكرها كل صباح و لا تستطيع. ليست تلك التي يستحيل تحقيقها، بل تلك التي تنتهي بتحقيقها رغم إستحالتها.

رفض أبي قدومي إلى مدينة تونس ، ولأول مرة أشعر بخوفه علي، لكني هذه المرة لم أتردد، بل أصريت على الرحيل، جمعت أغراضي و معها كل أحلامي و غادرت. ليس صعبا أن أتفهم قلق أبي، فالحياة في جربة هادئة و مريحة، قليلة هي السرقات و الجرائم، سهل التنقل من مكان إلى أخر و صعب أن تضيع في جزيرة يعرف فيها الجميع بعضهم البعض. ربما أكثر ما أحزن على تركه خلفي هو عائلتي، سندي الوحيد، راحتي حين يكون جسدي متعبا و سعادتي حين تكون الحياة تعاندني، لكني ومع هذا أمنت بحلمي لدرجة أني تركت كل شيء خلفي حتى أكبر مخاوفي وتوجهت إلى تونس، تلك المدينة الصاخبة.

أول يوم في تونس، إستقبلني نسيم بارد و أمطار غزيرة، أكان الطقس يحدثني؟ لما لم أستطع أن أفهم الرسالة التي كان يوجهها لي؟ ربما كانت عزيمتي في أن أحقق أحلامي أقوى من أن تؤلمني بعض الصفعات، بل إنه اليأس اللاذع أكثر ما كنت أحاول التخلص منه وتلك الوحدة التي كانت تحولني إلى غريبة عن نفسي، كان يجب أن أتخلص منها.

وبدأت حياتي في تونس. عثرت على مسكن في حي قريب من كل شيء حتى يسهل علي التنقل من مكان إلى أخر و بدأت رحلة البحث عن عمل، رحلة شاقة و ممتعة في نفس الوقت، في أصعب الأوقات حاولت أن أتجدد، أن أصبح أقوى و أمتن. امتحنت صبري، فخوفي فعزمي و سرت كالسهم أبحث عن كل فرصة تعترضني، إلى أن وجدت عملا في إذاعة خاصة. قوتي الوحيدة هي قلمي و تلك الكلمات التي تنسدل من عقلي إلى أوراقي، وتلك هي مهنتي بعد اليوم. لكني لن أكتب أفكاري و لن أستطرد المشاعر من قلبي لأرسخها في مذكراتي، لكني سأكون بالكلمات لسان البعض و أذن البعض الآخر.

في البداية بدأت كمتدربة، تعلمت كيف أحرر الأخبار و كيف أتثبت من صحة المعلومات و كيف أنشر المقالات. ثم بدأت أجلس ساعات على نفس المكتب، أكتب الخبر تلو الأخر إلى أن إعتادت يدي النقر على الحروف دون النظر إليها، أحيانا أنشر أخبارا حول السياسة و أحيانا أخرى حول الاقتصاد و الثقافة، و أكثر ما كنت أتفنن في كتابته هو تلك المواضيع الاجتماعية، بل بالأحرى كنت أستلهم من معانات الناس من فقر و بطالة و عزاء. يوما بعد يوم، سنة بعد سنة، صنعت لنفسي إسما بين جميع الصحفيين، مقالاتي كانت تحصد الكثير من الإعجاب و في كل مرة أرتقي أكثر. إني اليوم أعيش الحلم. فماذا بعد؟

ربما حان الوقت كي أعود إلى أحضان أبي، لأخبره بكل شيء: كم كان صعبا صعود القمة و كم كان سهلا السقوط، لكني و رغم كل الجروح لم أيأس و لم أعد، بل كافحت و إستمريت إلى اليوم.

أريد أن أخبر أبي أني و بالرغم من أنني حققت كل شيء، لكني لم أكن سعيدة و لو قليلا، فالحياة كانت أشبه بغيمة رمادية لا ألوان فيها، كنت أسعى نحو أشياء مادية فتناسيت أشياء أخرى أهم. نسيت كيف أحب الحياة في الأشياء التي أفعلها، نسيت كيف أحتضن نفسي حين يستقبلني النسيم البارد و كيف أحتمي بالأشياء من الأمطار الغزيرة.

ولو لمرة واحدة أريد أن ابكي و كأني أكتب بالدموع قصتي، لأني يا أبي، لو بكيت ولو مرة واحدة، لو أخبرتك ولو لمرة واحدة أني ندمت الرحيل، لكنت أخذتني بين أحضانك و أخبرتني أن أعود إلى تلك الأيادي الدافئة و القلوب المحبة، إلى تلك الجزيرة التي لا يمكن أن أضيع فيها.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات أميمة فرحات

تدوينات ذات صلة