الفكر الانعزالي والإنسحابي ما هو إلا طوباوية، وعالم يوتوبيا يعدنا بفردوس أرضي متخيل، لكنه صعب التحقيق على أرض الواقع اليوم

قوة الإعلام:


قبل مدة قرأت مقالين لدكتور يحسب على الوسط الإسلامي, ينتقد فيهما الدعاة والكتاب الذين لا يتورعون في صفحاتهم عن ذكر عناوين أفلام أجنبية للمتابعين، وبعضهم لا يتورع عن إخفاء أنه يتابع نتفلكس(والجميع يعلم أن نتفلكس باتت الراعي الرسمي للشذوذ).


لكن كالعادة جنح الخطاب لطرف النقيض، وزعم صاحبه أننا لا نحتاج إلى إعلام إسلامي، ولا بديل إسلامي لهوليود،

طبعا مع أن الدكتور ظهر في عدة محطات إسلامية لتقديم حصص وبرامج للناس.

مشكلتنا في الوطن العربي أننا لا زلنا نتأرجح بين طرفي النقيض، إما أسود أو أبيض وقل من يتحدث عن الوسط، قل من يعدل كفتي الميزان.كلام الدكتورعمن وصفهم بغلمان الحداثة والتنوير من دعاة يحسبون على الوسط الإسلامي صادق جدا، فبرأيي الشخصي ذلك التمييع لا يصدر إلا عن منهزمين ثقافيا وحضاريا، وحسب رأي أحدهم قال: "أن من لا يتورع عن ذكر عناوين أفلام فيها ما يخدش الحياء، ومن يذكر نتفلكس فهذا يتهم في دينه". قد تتابع أي شيء في حياتك الخاصة، لكن لا للمجاهرة بالمعاصي (وإن بليتم فاستتروا).


أما عن قوله أننا لا نحتاج إلى إعلام إسلامي، بسبب أن القائمين هناك يضيعون الصلوات، على حد قوله، ويضحون بأوقاتهم وأعمارهم على اللاشيء، لأن جل الأعمال مميعة وضعيفة، فهنا أقول:هل تجارب الإعلاميين السابقة والحالية التي منيت بالفشل ربما، أو انعدام الشخصية الإعلامية القوية، والمحنكة والإحترافية، أو انعدام الرؤية الإعلامية الملتزمة بضوابط الشرع، أو اتسامها بالضعف والركاكة، يبرر لترك العمل الإعلامي؟


هل يعني هذا أن العمل الإعلامي باطل في أساسه؟!

وأن الواجب الركون والانطواء على النفس؟!

- يقول الشيخ البشير عصام المراكشي بخصوص الأمر:((إذ الخلاف حول المفهوم لا يبطله، وإلا لزم إبطال الحقائق جميعها، إذ لم تسلم حقيقة من اختلاف الناس فيها تنظيرا وتطبيقا)).


المادة الإعلامية التركية:


في زمن ارتفع عدد الصحف والمجلات الوطنية والإقليمية والمحلية التركية إلى 6778 صحيفة ومجلة، وارتفع عدد محطات الإذاعة وقنوات التلفزيون العامة والخاصة إلى 248 قناة تلفزيونية و 1059 محطة إذاعية. وساعدت مؤشرات التطور تلك على تكريس حالة المنافسة وزيادة المواجهة بين المجموعات الإعلامية الكبرى، ذات التوجهات العلمانية من جهة، ووسائل إعلام التيار الإسلامي من جهة أخرى.


فصانعو السياسة في تركيا، يعتمدون على وسائل الإعلام كأداة أساسية للتعبير عن مواقفهم، وسياساتهم لكسب الدعم والتأييد لبرامجهم، فضلا عما تمثله من قنوات مهمة يستخدمونها في تعبئة الرأي العام، إزاء القضايا المتعلقة بالشؤون الخارجية أو الداخلية، وفي بناء البيئة السياسية وإعادة تشكيلها في ظل تواصل النزاع بين العلمانيين والإسلاميين، التجاذب بين الإسلاميين والعلمانيين تحول الآن إلى محور الصراع السياسي والفكري داخل تركيا، حيث تشكل وسائل الإعلام التركية أدوات المواجهة الرئيسة بين التيارين.


ولا يخفى على أحد أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أدرك أن توظيف الإعلام هو الوسيلة الوحيدة لكسب الرأي العام وإحكام السيطرة على البلاد، فاستخدم في سبيل ذلك كل الطرق بين الترغيب والترهيب لوسائل الإعلام ليضمن خضوعها لإملاءاته،

وقد نجح في ذلك تقريبا.فلا يخفى على عاقل الأعمال التركية الإسلامية التي ظهرت مؤخرا، والتي وصل صداها للمنطقة العربية، وقد شاهدت أعمالا كثيرة تغرس الإيمانيات، وروح الإسلام، وتدافع عن الحجاب كقضية هوية، وتعري تيارات العلمانية والماسونية التي حكمت تركيا ردحا من الزمان.


سلبيات الدراما التركية الإسلامية على الفرد والمجتمع العربي:


الرغبة في التبعية:


كمتابعة جيدة للأعمال والمسلسلات التاريخية والدرامية التركية، لا أنكر وجود إيجابيات عديدة، لكن ذلك لا ينفي وجود سلبيات سواء على الفرد أو المجتمع.المشاهد للدراما التركية كالمشاهد لأفلام هوليود، سيتأثر لا محالة، والتأثير هنا هو تأثير الرغبة في التبعية للنموذج التركي واعتباره النموذج المشرف الأوحد الذي يستحق أن نكون لا منافسين شرفاء، ولكن تابعين ضعفاء له، نرغب في الهيمنة التركية على بلداننا، والانضواء تحت قيادتها، كما كنا أيام الخلافة العثمانية، وهذا لا بأس به حال فرض أي نموذج إسلامي نفسه على الساحة باستحقاقه خلافة المسلمين، لكن الواقع يقول أن تركيا اليوم ليست تركيا الخلافة، فتركيا اليوم التي تبحث عن استرجاع أمجاد الماضي وهي لما تسترجع هويتها الإسلامية بعد، نموذج غير مؤهل لقيادة دفة الشعوب المسلمة.


خطر العقيدة المنحرفة:


لا يخفى على المتابع للأعمال التركية، ما يتلبسها من محاولة لإحياء الطرق الصوفية الضالة والمنحرفة، ودس هذا الأمر في ثنايا الأعمال التاريخية والدرامية ليس بريئا بالمرة كما يعتقد البعض.

في كتاب الإسلام بين الشرق والغرب، شرح علي عزت بيجوفيتش سبب بروز الصوفية أواخر الخلافة العثمانية، كتعبير عن الانفصال بين الدين والدولة( ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، ووجود شكل روحاني يشبه روحانية الكنيسة من إعلاء قيمة الإنسان، مع تجاهل للتاريخ الأرضي الواقعي، وهو بهذا يفسر انتشار الصوفية كدين جماهيري ارتضاه الحكام والخلفاء وروجوا له، كي لا ينازعهم العامة على الحكم، ولا يقوموا بمحاسبتهم أو الثورة عليهم.

وكفتاة عقيدتها سلفية تيمية كنت سأفضل التبعية للنموذج السعودي غير أن الأخير غير مؤهل وغير مشرف أيضا، ويتخذ من المدخلية وغلاة الطاعة، وتقديس الحاكم، جمهورا ذليلا، خانعا لتثبيت دعائم الحكم- (ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)- وفرصة للاستبداد السياسي, تماما كما يفعل الأتراك.

والتدافع "السلفي الصوفي" كنموذج في مسألة استحقاقات الصراع على الخلافة، نموذجان لا يستحقان قيادة دفة الشعوب العربية حاليا, ونأمل في نموذج آخر حبذا لو كان جزائري، فالدول العربية الكبرى كمصر والسعودية والعراق وسوريا غير مؤهلين حاليا، والمرشح الوحيد المتبقي هو الجزائر، وأتمنى بشدة أن تضطلع الجزائر بدورها الحقيقي(مجرد حلم).


المادة الإعلامية الشيعية:


المتابع للأعمال الشيعية التاريخية والدرامية، يرى الفرق واضحا والبون واسعا بين إعلام الدولة السنية وإعلام الدولة الشيعية.الشيعة نجحوا في تقديم البديل لجمهورهم، مسلسلات الأكشن، الدراما، الكوميديا، والأعمال التاريخية.والملاحظ للأعمال الشيعية يرى بشكل لا يدع مجالا للشك كيف تكون السينما الإسلامية بحق، وكيف تكون الأعمال الدرامية.وما يميز الأعمال الشيعية، هو الواقعية، المحافظة على تعاليم الإسلام الظاهرة، البعد عن الإثارة والجنسانية، الإلتزام بضوابط الإسلام فالحجاب غير ملفت، الإنارة خافتة, والملاءة الإيرانية الفضفاضة حاضرة، اختيار الممثلات ليس تبعا للجمال(فشكل الممثلة دوما متوسط)، في مقابل اختيارهم لوسامة الممثلين من الرجال.واستطاعت الأعمال الشيعية التغلغل بقنواتها ومسلسلاتها فوصلت للمواطن العربي، طفلا كان أو شابا أو شابة، ولا نستغرب مستقبلا من تحول أولادنا إلى المذهب الشيعي في حال لم ننتبه لأنفسنا.


المادة الإعلامية الأمريكية:


طبعا لا يخفى على أحد تأثير المادة الإعلامية الأمريكية وهيمنتها على العالم بأسره، واستخدامها لترسانتها الإعلامية الضخمة لحرب الإسلام والمسلمين، وإسهامها في الإسلام فوبيا بشكل كبير.لكن ما سأتحدث عنه هنا هو لفتة مهمة ذكرها الأستاذ فاضل سليمان في برنامجه ذكرى وعبرة (الحلقة3) بعنوان (قوة الإعلام)، حيث قال أنه كان متواجدا بنيويورك أيام أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأن المسلمين وقتها تلقوا الدعم من الشعب الأمريكي طيلة شهر كامل بعدها، فالأمريكيات ارتدوا الحجاب وذهبوا إلى المولات تضامنا مع المسلمات، والأمريكيين تعهدوا بحماية المسلمين و....ثم بعد شهر بالضبط, انقلب الوضع إلى النقيض تماما، حتى أن أحد الأمريكيين دفع امرأة مسلمة نحو سكة القطار فماتت، وحين تم التحقيق معه، وجدوا أنه إنسان مسالم لا سوابق له من قبل.


طيب لماذا انقلب الأمر؟

ولماذا ارتكب أمريكي مسالم تلك الجريمة؟


الإجابة يقول الدكتور فاضل سليمان تكمن في الحشد الإعلامي الرهيب، وضغط الخبر والصورة اللذان يشوهان الإسلام ويحضان على الكراهية، وبالتالي حصل ليس فقط تغييب للعقول، إنما تلويث للعقول.

بشكل أصبح فيه المواطن الأمريكي البسيط يعتقد أنه إذا لم يقتل المسلمين فسيقتلونه هم، وبالتالي معركته مع الإسلام معركة وجود.وهذا كله بسبب قوة الكلمة، وقوة الإعلام.

ثم يردف, طيب أين إعلام المسلمين؟


يقول الدكتور فاضل سليمان, أن ربع أو ثلث الأطباء في أمريكا مسلمون.من الذي يؤثر أكثر في توجيه الناس للمجتمع؟

الطبيب، أم الصحفي والإعلامي؟


الطبيب يدخل عنده عشرة مرضى ,أوعشرون مريضا. يقول لهم الطبيب(افتح فمك، أخرج لسانك، قل آااا).

إنما الصحفي يكتب مقالا يقرأه ملايين القراء في يوم، وهكذا يستطيع أن يغير اتجاهات التفكير في المجتمع.

مع احترامي الشديد للأطباء، لكن من يستطيع أن يؤثر أكثر؟الطبيب والمهندس أم الإعلامي؟

الرسول صلى الله عليه وسلم نزلت عليه سورة الشعراء، ولو كانت في زمننا هذا لسميت سورة الصحفيين.وذلك لخطورة دور الشعراء وقتها وأنهم كانوا يوجهون الناس من خلال الشعر ، يستطيعون تغيير تفكير المجتمع، يستطيعون إشعال الحروب إذا أرادوا، ويستطيعون نشر السلام إذا أرادوا.والشعراء يتبعهم الغاوون، فالبسطاء والعوام من الناس يميلون لتصديق كل شيء، حتى الأكاذيب والإشاعات.كيف واجه الرسول صلى الله عليه وسلم شعراء زمانه؟- واجههم بشعر محترف وأقوى من شعر القبائل المعادية، وكان يقول لحسان ابن ثابت(اهجهم وروح القدس معك، اهج قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبل).ما نحتاجه اليوم لمواجهة العالم هو قوة الإعلام، وبدل أن يقول أب لابنه أريدك أن تصبح طبيبا أو مهندسا, يلزم أن يقول كل أب لابنه: أريد أن أراك صحفيا حتى تدافع عن الإسلام".انتهى كلام الدكتور فاضل سليمان.


المادة الإعلامية السنية العربية:


هنالك مقولة تقول:(صاحب المشروع وإن كان ضالا أو شريرا، سيتفوق على من لا يملك مشروعا).

فللأسف لا زال العرب السنة لا يراوحون مكانهم،

ولا زلنا نخوض جدليات هل السينما حلال أم حرام؟وهل التمثيل حلال أم حرام؟

يقول الشيخ سلمان العودة: لن ينتهي الجدل الفقهي، ولا يجب أن نحجر عليه، لكن الحياة منطلقة في أبواب الإقتصاد والسياسة والتقنية والمواصلات والفضاء والإلكترونيات بأوسع مما يقول الفقيه. والتصحيح وارد وممكن حتى بعد ظهور الأعمال، فحركة التطور والاختيار والتحسين لا تتوقف، ومجرد الرفض لا يصنع شيئاً، وهجاء الواقع المرير لا يُقدِّم بديلاً. ولا يلزم أن يتفق الناس على شيء ما حتى يتحقق، فنظراتهم تختلف، وقد يميل قوم إلى إغلاق الأبواب، بينما يراها آخرون مفتوحة على مصاريعها، ويرون الإسهام في الميدان بدلاً من مجرد الامتعاض أو الإنكار. والعمل الدرامي يفترض أن يكون مواكباً لمتغيرات الساحة العربية، مستجيباً لتطلعات الشعوب وأحلامها، مدوناً لمرحلة من مراحل الحراك الإيجابي على كافة الصعد، ومنها الفنية والإعلامية، راسماً لمعاناة الفرد في حياته، راصداً لمشكلاته. غياب هذا النوع من العمل هو أحد أسباب خداع الشعوب وتضليلها، وإظهار المجرم بمظهر الوطني المخلص المضحّي، وتصوير الوطني الصادق على أنه إرهابي أو سفّاك أو منافق أو غبي أو متخلف".انتهى كلام الشيخ.


والموقف الواجب إزاء بعض المحاولات الإسلامية وإن كانت ضعيفة، هو مناقشة المعروض ونقده نقدا بناء للتطوير، وليس محاكمته والتنفير والتحذير منه.وكما يقول الشاطبي: (كل مسألة لا ينبني عليها عمل ; فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي).وكان عمر رضي الله عنه يقول(لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له).فقد رأينا وشاهدنا أن كل محاولة إعلامية من ملتزمين، تقابل بالإقصاء ويكون مصيرها الفشل والإجهاض، ولعل من يحارب قنوات طيور الجنة ويفتي بتحريمها، ويدع قنوات روتانا وشبكة الأم بي سي ويتغافل عنها خير مثال على واقعنا المرير. لسنا راضيين عن المحاولات السابقة، وغالبها لا يمثل الإسلام أحسن تمثيل خصوصا في الشكل والمظهر، عكس الأعمال الشيعية الملتزمة، ولكن من المسئول عن هذا؟بإمكاننا فرض قوانين صارمة على اللباس والعلاقة بين الجنسين في التمثيل على غرار إيران، فلماذا لا نفعل؟


ختاما:


الفكر الانعزالي والإنسحابي ما هو إلا طوباوية، وعالم يوتوبيا يعدنا بفردوس أرضي متخيل، لكنه صعب التحقيق على أرض الواقع اليوم، والدراما كما يسميها علي عزت بيجوفيتش تعلي من قيمة فعل مكابدة الحياة، والجهاد الحقيقي.


#شمس_الهمة


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات أمال جزائرية

تدوينات ذات صلة