مشهد فى حافلة يتكرر بشكلاً يومي فكان قتلاً لا انتحار

اجرجر قدماي المثقلة بأذيال خيبتي في طريق بؤسي اليومي مستقلاً حافلة أحزاني، وحيداً بين قطيع مقطعة الرؤوس فتدافع بيدها وقرون تنطح بلا منطق ولا هدف. أما أنا ضعت بين الذكريات بين ما أتاً وما فات اثقلت كاهلي وفقدت بوصلتي، صرت غريباً بين الحشود، غريباً وسط كل تلك الوجوه والضوضاء والأفكار، غريباً هنا وكأنِ لا انتمى إليهم ولا ينتمون إليّ، فأضحيت غريباً عن نفسي.




حتى وقعت عيناي عليها، وكأنه أراد القدر فتح جُرحاً تقيح فما عاد العلاج يجدي نفعاً ولا الاستئصال ممكناً، عصر ذاك الوجه الملائكي جرحي القديم، فاعتصر الفؤاد ألمً، وحلقت طيور الحزن فوق رأسي، فثارت شجوني عليّ مُعلنه التمرد.

تشبهها كثيرا، تسمرت قدماي انها هي، ذات العينين الواسعة، والوجه الطفولي نفسه، اظُنها في نفس عمرها، زهرتي المقطوفة قبل تفتحها، فقيدة قلبي للأبد، وجُزئي الموؤد أفقت على نهيق أحدهم خلفي دافعاً اياي بمخالب يده مردداً "متيلا ياستاذ". صعدت حافلتي مُشيَعاً لعملاً قتل بمخالب روتينه أخر خلاييّ، فأضحيت جثة لم تحظى بتصريح دفنها، لتعبث بها الأيدي.

اجلس بالكرسي المقابل لها يفصل بيننا الممر فقط، فأشرُد في تفاصيل وجهها الملائكية….

(آلاف المرات جلست بجواري كفراشة لتذهب لمدرستها، كم مرة شهدت الحافلة ضحكتها وسمعت صوتها، كانت طفلة مشاكسة وفتاة ناضجة، لعبت دور أمي مبكراً، كم مرة اعتنت بملابسي ومظهري وطعامي وهي لا تزال في السابعة عشر من عمرها، وفى المقابل كم قسوت لشدة خوفي عليها من مجتمع يحملها الإثم دائماً.)




مرّ شريط حياتي معها كاملاً وأحزاني أمام ناظري، عظم الحزنُ فتحجر الدمع بمقلتي، واي حزناً أشد من أن تذكر ايام هنائك وسرورك وأنت في أشد حالات تعاستك وشقائك، يجلدني الندم كل لحظة، لتنوب الروح بالدمع عن مقلتي، حتى هلك الفؤاد من الألآم المتتابعة.




لا أدري كم مر من الوقت شارداً معلقاً عيني بيها، حتى لاحظت يدها تفركهم بقوة وتحرك قدميها بشكل ينم عن توترها، حتى افقت على صعقتها انتفض جسدها وكأن العقرب نال منها، رأيت الهلع في عينيها ممزوجاً بالحسرة، مغلفة بمشاعر الخزي والعار، تيبست أطرافها من وقع الصدمة، في بداية الأمر هدأت من روعها معتقدة انه لم يقصدها أكيد، حاولت تجميع شتات أفكارها نظرت حولها هل من شاهد فتلاقت اعيننا في نظرة خاطفة فغضت بصري سريعاً لا أدري خجلاً منها أم من نفسي.

ها هي معركتي القديمة تلوح في الأفق من جديد، تلك المعركة اللعينة بين المفروض والمرفوض، بين العادات وضميري بين ما لقنت في صغري ومنطقي، بين تجربتي اللعينة والمجتمع، تلك التجربة التي قلبت حياتي رأساً على عقب، محت ألوان حياتي لتتوشح ايامي بالسواد، ضاعت بهجتها بانتحار صغيرتي لا بل كان قتلاً لا انتحار فأضحت بلا مزاق.




تلفتُ إليها مرة أخرى، وكأنه أراد القدر أن يضعني هنا بين مطرقة ضميري وسندان مجتمعي، فعلها الوغد مرة أخري، هذه المرة أقذر وأوقح وأوضح من سابقتها مستغلاً الزحام والركب الكُثر. رأيت صغيرتي تستنجد بي صارخة أبي…

لا تقتلني مرة أخرى.

نعم أعترف صغيرتي أنِ قاتلك بقسوتي عليك أولاً ثم بعدم إنصافِ لكِ ثانيا، خشيت الناس أكثر من خشيتي عليكِ، لأتجرع وحدي مُر فُراقك ومخالب وحدتي.

فكرت فيما فعلت بزهرتي في السابق، كنت اباً قاسي، خافت لقسوتي أن تخبرني بما يفعل أبن جاري من مضايقات وتحرشات، ولم تجد أماً ترتمي بين ذراعيها، فقد ماتت في صغرها حتى تجرئ وأغتصبها.

نظرت لذاك الوغد وتتطاير من عيني الشرر، رأيت فيه ابن جاري مغتصب صغيرتي، فالأوغاد تتشابه.

لن أصمت هذه المرة، ومما أخجل، ثارت ثورتي لإنقاذ صغيرتي في جسداً أخر، لأسكب عليه حمم براكين غضبي، لولا أن خلصه الجمع من يدي للفظ أنفاسه الأخيرة، لم أكتفي ولن أكتفي سحبته كخروفاً من عنقه ومعي صغيرتي حررت محضراً وكنت شاهداً.




كل ليلي…

أرها مُتشحه بالسواد مُخضبه بالدماء تبكي وتنوح، وحينما اقترب تركض منيّ فزعه أظل أركض خلفها لتسقط من قمة جبلاً….

لكن اليوم طلتها تختلف، كانت كقمراً ليلي التمام بثياب عرساً، وحينما اقتربت منها لم تركض تبسمت لي، انا من ناح بين ذراعيها تلك الليلة…

اغفري ليّ صغيرتي…

تبسمت مشيرة برأسها أي نعم…

تمت




AbeerHassan

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

تدوينات من تصنيف محتوى أدبي

تدوينات ذات صلة