عن ردود الأفعال المختلفة وتميز كل فرد بعالم داخلي خاص:

صحيح أننا نتشابه كَبَشر في تكويننا الخارجي، تتشابه البنيات والأجساد والملامح المتطابقة أحيانا، تتشابه الصفات الجسمية لكثير من الناس، وتتشابه الظروف المحيطة أيضا؛ لكننا نختلف في التكوين الداخلي وفي التفاصيل الروحية: فبصمات الأصابع لم يثبت أبدا أنها تطابقت، والحمض النووي(DNA) للأفراد مختلف، والقلوب نادرا ما تتشابه، والأرواح رغم أنها تتآلف إلا أنها مختلفة كل الاختلاف؛ حتى الذهنيات والاهتمامات مختلفة، فما تعتبره أنت حلما عظيما عليك تحقيقه يعتبره آخر أمرا تافها لا يستحق حتى نظرة، وما تعتقد أنت أنه شريان الحياة لم يسمع به آخر غيرك، وما يجعلك سعيدا قد يجعل الآخر تعيسا، بينما يخرج الواحد منا صباحا ساعيا لكسب رزقه يخرج آخر للتسكع في الشوارع ومراقبة المارة، فالفعل واحد والهدف مختلف!

كثيرا ما يمر أفراد الأسرة الواحدة بنفس الظرف؛ فنجد البعض يتعامل معه بعقلانية، والبعض بانفعال، وبعض آخر لا يعتبره شيئا! ويحضرني هنا قول الرافعي في كتابه(رسائل الأحزان): "العالم لكل الناس؛ غير أن لكل إنسانٍ عالَمًا هو خالصة نفسه" فهو يفسر بعمق هذا الاختلاف الحاصل بين من يشتركون في نفس الظروف، غير أن ردود الأفعال ومواقفهم تكون مختلفة!

والعالم الداخلي لكل إنسان يتشكل وفقا للتربية أولا، ثم للتجارب التي يخوضها الفرد طيلة حياته:

فالتربية التي يَمنَحها الأولياء لها دورها الفعّال في بناء الإنسان وتكوين ذاته، بل هي اللبنة الأساسية في تشكيل العالم الداخلي الذي يعد المنهل الذي يستلهم منه الفرد أفكاره، وردود أفعاله.

ثم إن التجارب معلِّم الإنسان الأول لما لها من وقعٍ في النفوس، وأثر بليغ في القلوب وهاهو الكاتب مصطفى السباعي يصف التجربة فيقول: "التجارب تنمي المواهب، وتمحو المعايب، وتزيد البصير بصراً، والحليم حلماً، وتجعل العاقل حكيماً، والحكيم فيلسوفاً، وقد تشجع الجبان، وتسخي البخيل، وقد تقسي قلب الرحيم، وتلين قلب القاسي، ومن زادته عمى على عماه، وسوءً على سوئه فهو من الحمقى المختومين" وبذلك يصنع كل إنسان عالَمَه الخاص الذي يختلف كاختلاف(DNA) ويُمكّنُه من العيش في العالم المشترك بين الجميع حياة متخلفةً ماهي إلّا تجسيد لعالَمه الداخليّ.

ولقد جسّدت الكاتبة التركية أليف شافاك فكرة العالم الداخلي في روايتها حليب أسود تجسيدا رائعا، وشرحت الفكرة شرحا معمقا: إذ اعتبرت عالمها الداخلي مكونٌ من أربعة أركان أساسية أطلقت عليها اسم (حريم نفسي) وبغض النظر عن حريمِ الكاتبة واسم كل ركن، فإننا جميعا-رجالا ونساءً- نملك تلك الحريم-الرجال- التناقضات والصراعات الداخلية التي تتنازع داخلنا في كل أحوالنا لتخرج في النهاية بالقرار الذي يجب أن نتخذه حيال موقف ما ماهي في الحقيقة إلا أركان العالم الداخلي!

كما أن هذا العالم ليس ثابت المعالم، يتغير بعضه بتغير معطيات الحياة ومستلزماتها، فالزمن يلعب لعبته على الإنسان، والتجارب تلقي دروسها عليه غير أن المبادئ تبقى ثابتة تضرب بجذورها داخل المرء فتثبته إذا اشتدت عليه النوائب!

زكية أحمد

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

شكرا لمرورك عزيزتي بيان❤

دائما مبدعة ، تسلبُ كلماتك القلب 😍

إقرأ المزيد من تدوينات زكية أحمد

تدوينات ذات صلة