المِهنةُ ليسَت إلَّا ( اسمًا ) و إنما أنتَ ( المعنَى )
صَوتُ البُكاءِ المُنسَاب مِن حنجرتِه كَصافرة .. يُعلِنُ اندفاع الهَواء فِي هاتين الرئتين الصغيرتين للمرةِ الأولى، فَهذا المَلاك الذِي بَين أيدينا ما عاد جَنينًا، بَل يَتخيّرُ " أوكسجينه " بجسده الغَضّ الرَّقيق، مِن غير استعَانةٍ بالحبل الذي اعتصمَ به طيلة تسعة أشهر .حَبّاتُ عَرق تنزَلقُ من على جَبين الطّبيب و أصواتُ أجهزة المُراقبة كمعزوفَة مُضطربَة، وممرضتين تُمسكانِ بعينيهِما قِراءات العلاماتِ الحَيوية للأم والمولود . "كُل شَيء على ما يُرام" .. هذا ما قالَه الطَّبيب للمُمرضة حِين دَوّنت على الأوراق اسم الأم، ثُم غَمست قَدم مولودها فِي الحِبر، و هَوَت بِها أسفل الاسم كتذكرة عُبورٍ إلى عَالم البَشر .
خرج للتو من عالمٍ كان فيه كُل الكُل، مملكةٌ سُخرت له بكل ما يحتاج، وقبل أن تعرفَ أمه ما إذا كان ذكرًا أو أنثى، نما في أحشائها خليةً خلية ، كانت تُربت عليه وتغنّي له الأناشيد بلا أي شرط، تحاكيه من غير أن تعرف كيف سيبدو حين يكبر ، تقُص له القصص بلا مُقابل، يركُلها فتبتسم لقوّته، يأكل مما تأكل ويشرب ما تشرب، تُقدّم له وهي لا تعرفُ هل سيكون كسولا في المدرسة أم سيبهر الجميع بذكائه ، غير أنها تُحبه وكفى...فإذا كبر الطفل وبدأ رحلته وحيدًا داخل عقله، يجمع تساؤلاته ليواجهها تحتَ الغِطاء قبيل أن يغفو، وفي كل يوم يفهمُ العالم أكثر، فيغدو رجلًا ، وتتوسّع تلك التساؤلات.. ليجد أن العَالمَ يميلُ إلى التَّصنيفات ، ويبنِي عَليها ما شاء أن يبنِي مِن الأحكام والتَّعميمات فَيرفَعُ بها أصنافًا ويَضعُ آخرين ، وَينحَني احترامًا أو يزدرِي احتقارًا شَخصٌ ما تبعًا لمهنتِه!
المِهنة التِي نختارها طواعية فنرسم بهَا حُلمًا قديمًا يوم كُنا صِبيانًا نتساءلُ فيما بيننا ماذا سنُصبحُ عِندما نكبُر ؟! أو قَد نرى أنفسَنا جزءًا مِنها حِين نتجاوز مرحلة الثانوية العامَّة بِنتائجَ تتناغَم مع هذا التخصص أو ذاك .. ولعلّ عددًا كبيرًا منَّا وجَد نفسَه أسيرَ نتيجته فاختار تخصصًا يتناسب معها لا مع أحلامه و طُموحاتِه! ثم اجتهدَ ودَرس وتخرّج فصارَ فردًا من مُجتمع مهنةٍ مُعيَّنة .
صَباح كل يوم نُلقِي التحيّة على انعكاسِ صورنَا في المَرايا ثُمَّ نُسابق الشّمس في الوصولِ إلى أعمالِنا .. مُهندسٌ عِند محطة الوقود يسألُ العامِل هناك أن يروي رَمق خزَّان سيارته ، عامِلُ المحطة فِي طريقه إليها استقلَّ حافلة الحي ، سائقُ الحافلة مَرَّ بجارِه الخبّاز إذ إن رائحة الخُبز قَرعت طُبول معدته ، مُحاسبُ المخبز زارَ طبيبًا يشكو له ضرس العقل ، الطبيبُ يرتَدي بدلةً أنيقةً ابتاعها من السوقِ المُجاوِر ، صاحبُ السوق استعانَ بالمُهندس إياهُ لتصميمِ هذا المبنى ..
إنَّما نَحنُ كخلّية نحلٍ لكُل واحدٍ منّا دوره في هذه الحَياة ، نبنِي سويًا بُلدانَنا بأيدينَا ويُكملُ بعضنا بعضًا ، لَيس ترفعُنا مهنة ولا تحطُّ مِن أقدارنا أُخرى .. نَحنُ مَن يرفعُ قدر المِهنة حين نفهمُ معنى الخِلافة في الأرض وحين تغدو المِهنة سَبيلاً لعمارتِها ، نخدمُ بها أهدافَنا السَّامية ونجعلُ منهَا طريقًا لتقدُّم أوطاننَا .. نحنُ الذين نُعلِي شأن مهنتنَا عِندَما نتفانى في تأديتها وإن كانَت في نَظر الناس بسيطَة ، نُتقِن تفاصيلهَا الصغيرة التي تعلّمناها بتقادُم الأيام حتى إذا حان وقتُ الأجر .. أدركنَا مَعنى السَّعي فِي الرِزق .
المِهنةُ ليسَت إلَّا ( اسمًا ) و إنما أنتَ ( المعنَى ) ، أنتَ روحهُا التي تتشكَّل كيفمَا أردتْ! المِهنةُ لا ترفعُ كسولًا رضِي أن يكونَ في آخر الصَّف .. ولا تجعلُ مِن العاديين أسماءَ لامِعة !. سَنغدُو مجتمعًا أفضل حينَ نَرى في النَّاس معانيهم فنرفعُ القُبعات للمُتفانِي كَيفما كانت مِهنته ، ونُقدّرُ المُحسنَ في اتقانِه مَهما كانت وظيفته .
فِي حُجرةِ الولادَة كانت بدايتُنا حيثُ تَعاونَ الطبيبُ والممرضاتُ على إخراجِنا لهذه الدُّنيا ، ويومَ أن كبُرنا يتعاونُ في دواخِلنا الشَّغفُ والعملُ الدؤوب لنَصبح كَما نُريد و لِنصنعَ من وظائفنَا حكايا نجاح .
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات