"وقد تكون قسوة البدايات علامة علي حلاوة النهايات - فلنجعل البدايات وقود لقطار المفاجآت"


سؤال كثيرا ما سمعناه ونحن صغار أو نسأله للأطفال ونحن كبار. وعادة ما تكون الإجابة تقليدية وقلما ما نهبط بالأحلام إلى الواقع. ورغم أننا نشعر بخيبة أمل كبري عندما نكبر ولا تتحقق الأحلام إلا أنا سرعان ما نشعر بالسعادة عندما تتحول هذه الخيبة الكبرى إلي مصنع للآمال.

وأنا تلميذ صغير في الابتدائية في أوائل السبعينات دائما ما كان يسألني أهلي وأقربائي وأصدقائي السؤال التقليدي الذي كان منتشرا آنذاك للتلاميذ المتميزين في المدارس "عايز تبقي إيه لما تكبر". كانت إجابتي قاطعة "عايز أبقي دكتور أعالج الناس". وكان الكل يبتسم ويدعوا لي بتحقيق أمنيتي سواء من قلبه أو من وراء قلبه.

وذات مرة سألني أحد رؤسائي في العمل أثناء عملي في الإجازة الصيفية نفس السؤال فأجبت بنفس الإجابة. ولكنه فاجأني بسؤال آخر "وعايز تبقي دكتور جامعة برضه". وكانت تلك هي المرة الأولي التي أسمع فيها عن الدكتور الجامعي.

وعندما سألته وما هو الفارق بين الدكتور والدكتور الجامعي. ضحك الرجل وشرح لي بالتفصيل الفارق بينهما حتى أني اعتبرت ما قاله لي يومها محاضرة متكاملة وما زلت أتذكر الكثير من كلماته حتي الا رغم مرور اكثر من أربعون عاما. وكانت اجابتي بعد توضيحه لي "أريد أن أكون طبيب ودكتور جامعي".

ضحك هذا الشاب الجامعي الأنيق وربت على كتفي وأنا ما زلت أستمع إليه وأنا مستمر في عملي قائلا "سيحدث إن شاء الله إذا ما اجتهدت وأخلصت وتميزت كما تفعل في عملك الآن في الإجازة الصيفية.

ومرت الأيام وحققت النصف الأخير من أمنيتي وهي أن أكون دكتورا جامعيا. ومع أنى كنت أستطيع بصورة ما في مرحلة لاحقة أن احقق النصف الأول من أمنيتي وهي الدراسة في كلية الطب لأكون طبيبا، إلا أن القدر حال بني وبين تحقيق ذلك لفائدة لم أعرفها في حينها، ولكني أدركتها بعد سنوات لاحقة. وفي ذلك قصة أخري طويلة ومشوقة وعجيبة.

ثم كان الإصرار على التميز والكفاح طوال مشوار الطريق من مصر إلى اليابان إلى أمريكا ثم إلي طنطا خلال الثلاثون عاما الماضية (من 1992-2022) وراء تحقيق النصف الثاني من الأمنية وهو أن أكون أستاذا جامعيا. وأثناء هذا المشوار الطويل، الذي لم ينته بعد، كنت أسأل نفسي كل فترة خمسة أسئلة محددة وهي.


1- كيف أري نفسي كل خمس سنوات؟

2- كيف أحافظ على بقاء شعلة الشغف مشتعلة في عقلي؟

3- كيف أحقق المستحيل بأدوات الممكن؟

4- كيف أكون مختلفا ومتميزا عن الآخرين لترك بصمة أثناء مشوار الحياة؟

5- كيف أستثمر تميزي لنفسي وللآخرين؟

وعندما كنت أسأل نفسي هذه الأسئلة كنت أبحث في ذاتي عن كل قمة منحني الله إياها في أرضي، وكيف أتسلق كل الصعاب حتى أصل إلى القمة وأزرع هناك أعلاما تميزني وأجعلها ترفرف دون أن تتمزق.

نعم لم أحقق كل ما تمنيته، ولكني حققت الكثير والذي أراه في ذاتي وفي نجاحات الآخرين، فقد أصبحت عالما في مجال طبي متميز هو المناعة والأورام وأصبحت أديبا وكاتبا وروائيا ومؤلفا في تبسيط العلوم. فيكفي أنى اكتشفت ثلاث قمم على أرضي، ويكفي أن أروي أرضي بنفسي لتطرح ثمارا للآخرين.

فدعوتي لكل طالب علم أن تكون من هؤلاء الأشخاص الذين غيروا العالم أجمع حتى الذين لم يظهر تأثيرهم إلا بعد رحيلهم حتى ولو في محيط مجتمعهم. فنحن لا ننسي أبدا أرشميدش، وفيثاغورث، وسقراط، وافلاطون، وأرسطو، والإسكندر الأكبر، وتحتمس، وخوفو، ونفرتيتي، وبن حيان، وبن المقفع، الجاحظ، بن سينا، بن الهيثم، الخوارزمي، فرانسيس بيكون، إسحاق نيوتن، دارون، مندل، وليام هارفي، جاليليو، باستير، الفرد نوبل، اينشتين، المنشاوي، عبد الباسط، الحصري، الشعراوي، الغزالي، محمد عبده، المنفلوطي، الأفغاني، الرافعي, بنت الشاطئ، مصطفي كامل، محمد فريد، سعد زغلول، احمد عرابي، محمد كريم، شامبليون، طلعت حرب، نجيب محفوظ، احمد رامي، عباس العقاد، توفيق الحكيم، أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، زويل، مجدي يعقوب، محمد صلاح، فاروق الباز، وغيرهم الكثيرون.


وتذكر جيدا أن كثير من الناس يستطيعون النجاح بسهولة، أما التميز والإبداع فله رجاله. وتذكر جيدا أن كل ما تحتاجه لتحقيق التميز هو أن تكون لديك إرادة على التميز، وخريطة طريق ترسم فيها خطوط الطول والعرض للتميز، وأن تكتشف قمم التميز في أرضك، وأن يكون لديك دليل وهو أستاذك ومشرفك ومعلمك. وعندما تكتشف قمتك وتتميز وتبدع فيها، تذكر جيدا أن توظف قمم تميزك لصالح الآخرين قبلك، وأن تساعد الآخرين على اكتشاف قمم التميز فيهم.

وتذكر جيدا إذا كان التميز اسما فالقدرة على التميز صفة، وأنك تستحق هذه الصفة.

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة

كلية العلوم جامعة طنطا

وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

https://www.youtube.com/watch?v=vnHLE_Jb1tg

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة