"فاقد الشيء يتمز ويبدع فيه ويصبح تميزه وابدعته عزب للآخرون"


"فاقد السيء بيتميز ويبدع فيه"

"كل مبدع كان يعاني يوما ما أو لحظة ما من الحرمان من شيء ما، ولكنه أصرّ على أن يحول هذا الحرمان إلي نجاح وتميز وإبداع"

هناك فرق كبير بين النجاح والتميز والإبداع. فاذا كان النجاح سهل تحقيقه بالكفاح والإصرار والالتزام، فإن التميز يحتاج إلي التفرد في القول والعمل. أما الابداع فهي حالة خاصة يمنحها الله لعباده ولكن بدرجات ومواضع متفاوتة. وفي هذا الصدد عادة ما يتكرر سؤال الشباب عن أسباب التفوق والتميز والتي تمثل الدافع الأساسي الذي يأخذ بيد الإنسان إلى السير في طريق التميز حتى ولو كان وعراً. ومع أن الإجابات التقليدية على هذا السؤال التقليدي كثيرة ومتعددة إلا أنني دائما ما أفضل أن تكون إجاباتي صادمة وعارية من أي تجمل خاصة عندما يكون الحديث مع الشباب.

وفي جلسة مع مجموعة شباب من طلاب، ي والتي عادة ما يتحول جزء منها إلى صالون ثقافي، سألني أحدهم هذا السؤال التقليدي المهم عن أسباب التفوق والتميز من وجهة نظري الشخصية. فوجئ الشباب بقولي "الحرمان هو وقود التميز". تعجب الجميع من الإجابة لأنها لا تعكس حال معظمهم الذي يبدو بعيدا عن الحرمان. ولكي أقطع نظرات التعجب في أعينهم أوضحت تفسيري لمصطلح الحرمان.


فمع أن الحرمان عادة يا شباب ما يرتبط بالفقر والعوز والحاجة والمسكنة، إلا أن الإنسان قد يشعر بالحرمان في جميع أوجه حياته. فهناك الحرمان المادي الذي لا يجعلنا نحقق طموحاتنا اليومية، والحرمان العاطفي من فقدان الحبيب، والحرمان الاجتماعي من فقدان روح الأسرة والأصدقاء المخلصين، والحرمان النفسي من فقدان الأمن والأمان والاطمئنان، والحرمان العلمي من مظاهر التعلم والثقافة والدب والفنون والعلوم والتكنولوجيا. ولذلك فمن المتوقع أن يسعي جاهدا كل من يشعر بالحرمان أن يكون متميزا ليعطي أفضل ما لديه ليقهر هذا الشعور ويحوله إلي عطاء من نفسه للآخرين.

يرد أحد الشباب قائلا "ولكن المثل الشائع يقول "فاقد الشيء لا يعطيه". فكيف من يشعر بالحرمان من شيء ما يتميز في شيء لا يذوقه ولا يعرفه. ويضيف بنبرة ثقة في صوته وملامحه، أنا أري أن الحرمان هو الماء الباردة التي تطفئ نارُ الطموح في مهدها، وتحول الآمال إلي كومة رماد تسري في النفس فتصيبها بالاكتئاب.

نظرت إلي الشاب الذي كان من الواضح أنه نال استحسان نظرات الإعجاب أو علي الأقل الموافقة من زملائه، وقلت له نعم قد يكون الحرمان ماء، وقد يكون أيضا ناراً، وقد يكون نورا. ولكننا نتحدث عن المتميزين، وهم من يملكون أدوات التميز التي أودعها الله فيهم سواء جهلوها أو علموها. ومع أن الله أودع في كل خلقه أدوات للتميز، إلا أنه خص بعض عباده بأدوات أكثر دقة وتعبيرا وتأثيرا. فقد يكون التميز واضحا وجليا في الصوت أو العزف أو الرسم أو النحت أو التأليف بأنواعه من شعر وقصص وروايات أو التصوير أو الفم والتركيب أو الحفظ أو الخط الجميل أو الحكمة وغيرها من مظاهر التميز التي تكون جلية لمن يمتلكها. والتميز ليس بالضرورة أن يكون في موطن الحرمان بل عادة ما يكون في شيء آخر أو أشياء أخري. فالحرمان هنا هو الوقود الذي يساعد في طهي صنف أو جميع أصناف الطعام.

ثم نظرت إلى الشاب بابتسامة مغلفة بالحكمة وأنا أذكره بالمثل الشائع "الحاجة أم الاختراع"، وهو المثل الواقعي والمناقض لمثله الذي اعتمد عليه وهو "فاقد الشيء لا يعطيه". ثم أمعنت النظر في عينيه العميقتين قائلا فاقد الشيء يسعي لتحقيق هذا الشيء ويعطيه بسخاء عندما يصل اليه، وتلك قمة درجات العطاء. فمن يشعر بالحرمان من شيء يسعد به أيما سعادة عندما يحققه ولو بعد عناء، وعندما يحققه يريد كل من حوله أن يشعر بقيمة وحلاوة هذا الشيء ليشاركوه اللذة في امتلاكه والفوز به.


فعلي سبيل المثال، من يشعر بالحرمان العاطفي ولديه ادوات التميز في التعبير عن مشاعره سوف يكون أديبًا أو شاعرا متميزا. ولكن دور الحرمان أكبر من ذلك فهو الذي يدفعك دفعا بأن تتميز حتى لا تكون محروما. فالكثير من الفقراء أصبحوا أغنياء أو علماء أو أدباء أو فنانين. فإذا كان كل منا يستطيع النجاح إلا أن القليل منا يستطيع الوصول إلي مرحلة التميز.

ابتسم الشباب وتركوني أكمل حديثي كنوع من الانصات لأستاذهم حتي ولو كان مخطئا كنوع من أنواع جبر الخواطر.


وبناء علي صمتهم المؤدب بدأت ازيد في الحديث عن الحرمان وكأني اشعر بحرمان من الكلام. قلت: وهناك نوعان من الحرمان، الحرمان في الصغر والذي يصبح وقودا للإنسان القابل للتميز فيصبح دافعا لنجاحه ليتغلب علي الحرمان ويتخطاه حتي يصل إلي درجة الأمان بعيدا عنه ليستطيع السير بقوة في طريق التميز. وفي الغالب يكون هذا النوع من الحرمان من النوع المادي أو الاجتماعي. وهناك أيضا نوع من الحرمان الذي يحدث للمتميزين في الكبر. فعندما يشعر الأديب من الحرمان العاطفي نري كتابته تقطر عاطفة ورقة وعذوبة. وعندما يشعر المطرب بالحرمان الاجتماعي نراه يطرب ليس فقط آذاننا ولكن أيضا كل خلية في جسدنا، حتي يصبح طربه متفردا في طعمه وشكله ولونه. وهكذا الحال في جميع مظاهر الحرمان التي تحدث للمتميزين بعد أن يكونوا قد حققوا التميز.

والحرمان يُوَلّد الشغف، فإذا هدأ وسكن ونام الحرمان استيقظ القنوط؛ وإذا استيقظ الحرمان وثار ونشط ينام الفشل. ولكن ليس بالضرورة أن تعمم القاعدة، فلكل قاعدة استثناء تجعل المتميز يحيد عنها سواء غصبا أو قهرا أو طواعية. فهناك الكثيرون الذين رأيتهم في حياتي وكانوا يمتلكون أدوات التميز بقوة ووضوح ولكنهم وقعوا في براثن الحرمان واستسلموا له تمام الاستلام فلا هم استطاعوا أن ينجحوا ولا هم استفادوا من تميزهم الفطري. ولذلك أري أن الحرمان في الصغر هو وقود النجاح الذي يؤدي إلي التميز، وأن الحرمان بعد تحقيق التميز هو تلك الشمس التي تشرق في سماء النفس لتنير كل مظاهر التميز فيري الآخرون اشعتها بوضح لتنير دروبهم.

ورغم أني لم أستطع أن أغير نظرات الاستهجان وعدم الرضا عما أقوله في عيون هذا الشاب العشريني الذي بادرني بالسؤال عن أسباب التميز في بداية الحديث، إلا أنني حاولت أن أقنعه بمزيد من الأمثلة. قلت له: وفلسفتي هذه عن الحرمان وتأثيره علي التميز والإبداع تنطبق علي الأفراد والدول والشعوب. فمعظم الشعوب تشعر بنقص في المال أو الأنفس أو الأمن والأمان ولو في مرحلة معينة من مراحلها. ولكن سرعان ما يكون هذا النقص دافعا ومحفزا لبعض الدول لتحقق القدرة علي التغلب علي هذا النقص ثم التميز فيه وبسرعة وقوة. وهناك دول مثل لليابان والصين والهند وماليزيا وكوريا التي استطاعت بقوة وبسرعة من تحقيق التميز رغم ما كانت تعاني به من حرمان في مظاهر اقتصادية ومالية ومجتمعية. حتي الدول التي كانت غنية وصناعية ثم دمرتها الحرب العالمية الأولي والثانية نهضت مرة أخري وبسرعة وبتميز رغم الحرمان الطويل الذي عاشته في فترة ما بين الحربين.

وما زال الشاب ينظر إلي بأدب جم ولكن بعيون رافضة لما أقول, فقلت له أن الله سبحانه وتعالي قد ذكر في سورة البقرة مظاهر النقص التي قد يصيب الإنسان "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ( 155 ) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ( 156 ) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157). فكل مظاهر النقص (الحرمان) هذه لا تهد المؤمن ولكنها قد تشد من أزره وتقويه إذا حمد الله عليها وتعامل معها تعامل العارفين العالمين قولا وعملا وفعلا.

هز الشاب رأسه وأنا لا أدري هل هو موافق أما مازال معارض ما أقوله عن فلسفة الحرمان. ولكني ابتسمت له قائلا أنا رجل من زمن الحرمان فلا تأخذ كلامي علي محمل الجد فأنتم جيل وُلد وقد تغيرت معاني الحرمان التي تربي جيلي عليها. ابحث يا صديقي عن أي سبب للتميز وتمسك به لتكون أول المتميزين. وضحك الشاب قائلا بعيون ضاحكة "وأنت يا أستاذي لا تحرمنا من أقوالك ولو كانت برائحة الزمن الذي كان".

وهو يمد يده ليسلم عليّ ليستأذن هو وزملائه، انهيت حديثي معهم "نعم الحرمان أيًا كان نوعه ووقته هو تلك الطاقة الكامنة في النفس التي لو استخدمها من يمتلكون أدوات التميز لنجحوا بقوة وأصبحوا من المتميزين. فلا تبتأس إذا حرمت من شيء فلسوف يعطيك ربك فترضي.

رد الشاب بأدب شديد "أعطانا الله وأعطاكم أستاذنا الغالي، ولا حرمنا منكم".

انصرف الشباب وانفضت الجلسة وجلست وحدي أفكر في أيام الحرمان ومظاهر العطاء.

مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة