لماذا كل هذه الاستماتة لرواية قصصنا، ومحاولة خلق تعاطف مع حكاياتنا؟ لماذا هذا مهم بالنسبة لنا؟
لن يتطلب الأمر منك أكثر من ساعة تصفح على أي منصة من منصة من منصات التواصل الاجتماعي، حتى تكون قادرًا على معرفة قصة حياة من أمامك، مفضلاتهم وآلامهم وأجمل وأسوأ لحظات حياتهم، أقاربهم وارتباطاتهم، وكل شيء تقريبًا، ولو كنت محظوظًا أكثر وكان هذا الشخص مشهورًا لسبب أو لآخر، فعندها ستشاهد الكثير من الفيديوهات التي يشرح خلالها آلامه وآماله، وتفاصيل حياته وأسرته وماذا يأكل وماذا يشرب، وروتينه الصباحي والمسائي، وتأثير الشهرة على حياته.
والسؤال هنا لماذا؟ لماذا كل هذه الإستماتة الإنسانية لرواية قصصنا؟ من أجل المشاهدات؟ نعم ولا، أعني نعم قد يكون هذا هو سبب البعض ولكن لا فهذا ليس سبب الجميع، فكتابة الحكايات والقصص منتشرة لدى الجميع ابتداء ممن يملك 5 متابعين وليس انتهاء إلى من يملك 5 ملايين متابع، الكل يروي القصص، وحتى في عصر ما قبل الإنترنت كانت البشرية مستميتة لكتابة حكاياتها.
حتى إنسان الكهف الذي لم يملك لغة معاصرة، حرص هو الآخر على رواية حكايته وحفرها داخل الكهوف، هل هذا نابع مع اعتقادنا بأننا مميزون؟ أو من رغبتنا أن نكون مؤثرين؟ أو ربما هي محاولة للحصول على تعاطف من حولنا وجعلهم يفهموننا أكثر؟ ولكن هل هذا ممكن؟ هل يمكننا فهم من حولنا، هل يمكننا التعاطف مع مواقف لم نعشها، أعني هل يمكنك إخبار أحدهم بأنك تفهمه وتشعر به حقًا؟
الحقيقة هي على الرغم من كثرة وكثافة الروايات والحكايات لا يمكن للمرء أن يفهم أو يشعر بالآخرين بنسبه 100%، خاصة إذا كانت التجربة لأحداث لم يسبق لنا تجربتها، في مجتمعات لم يسبق لنا العيش بها.
الحضارات القديمة
كانت التضحية بالحياة بشرية من أعلى وأعظم القرابين التي يمكن للبشر تقديمها، وهي جزء أصيل من تاريخ البشرية، وتفنن البشر في أساليب التضحية التي استخدموها، فتعددت طرق التضحية التي استخدموها، مثل قطع الرأس بعد سلخه أو نزع القلب الذي لا يزال ينبض، أو إلقاء الأضاحي في حفرة عميقة ودفنها وهي حية بوصفها دفنًا نبيلًا.
تبدو كل هذه الأفعال مشينة ومقززة اليوم، ولكن في مكان ما في عصر ما كانت منطقية تمامًا، ونحن أبناء وأحفاد أولئك الذين ضحوا، أو على الأقل أولئك الذين شهدوا التضحية ولم يستنكروها، بل وجدوها شيئًا نبيلًا ومنطقيًا، لدرجة أنهم قضوا وقتًا من حياتهم برسم وتصوير وتوثيق هذه العمليات.
ولكن وبعد كل هذه السنين يبدو أننا لم نفهم ما أرادوا إيصاله، بل ربما نريد أن نصف أولئك البشر بالهمجية و الجهل على كل ما فعلوا، يبدوا من المستحيل فهم تلك الممارسات أو التعاطف معها أو قبولها، مهما حاول أولئك الأقدمون شرح ورواية قصصهم وطقوسهم ومبرراتهم، يبدو ذلك محاولة لتبرير ما لا يمكن تبريره.
الحيوانات
هل ترتكب الحيوانات جريمة القتل؟
يخوض النمل حروب دامية في منافساته على المستعمرات، وتذبح ذكور الأسود أشبالها في حال انضمامهم إلى مجموعات أخرى، ونسبة قتل الشمبانزي لبعضها مسواية لنسبة القتل بين البشر، ولكن هل بإمكاننا أن نطلق على الأسد أو الشمبانزي أو النمل صفة القتلة؟
طالما أن الحيوانات غير مدركة للبعد الأخلاقي لأفعالها، فهي لا تشغل بالها بالتفكير به، وتعفي نفسها من البعد الأخلاقي لأفعالها، ونظرتك لهذه القضية تعتمد على فلفستك الأخلاقية، فقد ترفضه في كل الأحوال، وقد ترفضه في عالم البشر وتقبله في عالم الحيوان باعتبار أن الإنسان يمتلك الوعي لمحاسبة نفسه على أفعاله، ولكن حتى في عالم الإنسان يمكنك أن تقوم بجريمة قتل مبررة دون أن توصف بالقاتل، مثل الدفاع عن النفس أو في الحرب.
ماذا عن الاغتصاب؟
كبشر متحضرين غير همجيين لا بد أننا نجد أن الاغتصاب جريمة ورذيلة، ولكن ماذا عن الحيوانات غير المتحضرة؟
البط والإوز والدلافين والشمبانزي في الحقيقة تقوم بما نسميه نحن البشر "إغتصابًا"، وفي بعض المجموعات الحيوانية يشكل الاغتصاب نصف التزاوجات المرصودة، ولكن هل يمكننا تسميته باغتصاب، مرة أخرى نحن لا نعرف مبررات هذه الحيوانات، وفي الحقيقة هي أصلًا لا تشغل بالها بالبعد الأخلاقي لأفعالها، فمفاهيم مثل الأخلاق والقتل والاغتصاب هي خاصة بالبشر وليست لغة مشتركة مع الحيوان، ومهما حاول البشر شرحها للحيوان أو حاول الحيوان تبرير موقفه للبشر، يظل البشر بشرًا والحيوان حيوانًا، وبالتالي لا يمكن أن نقول بثقة بأننا حقًا نفهم الحيوانات بنسبة 100% لأنها تعيش في عالم لا نعيش نحن به.
الألوان
ما هو اللون الأحمر؟
هل يمكنك شرح اللون الأحمر لشخص لم ير اللون الأحمر على الإطلاق في حياته؟ قد تستطيع تقريب المفهوم أو شرح مشاعرك لمن حولك، قد تقول بأنه لون يشعرك بالطاقة، ولكن غيرك قد يقول بأنه لون الموت والدماء وهو لون يشعرك بالخوف والانكسار، وفي كل الأحوال لا يمكن لمن لم ير الأحمر في حياته أن يعرف ما هو اللون الأحمر من خلال شرحك له، مهما حاولت ومهما بذلت من جهد وطرحت من أمثلة.
يشابه هذا العديد من قصص حياتنا، مهما ظننا بأننا أحسنا الشرح والتفسير، سيظل هناك جزء من واقعنا لم يختبره أحد ما، ولم يفهمه أو يشعر به حتى وإن حاول هو بصدق وحاولنا نحن بصدق!
الجنس الآخر
هناك مقولة أحبها تقول : " No Uterus No Opinion!" أي " لا رحم، لا رأي"
وهي عبارة تقول ببساطة لمن ليس لديهم أرحام (الذكور) أنه ليس باستطاعتهم إخبار النساء بما يجب أن يشعروا أو يفعلوا، فطالما أنك لا تلعب اللعبة، فأنت غير مسموح لك وضع قوانينها، فمهما وصفت النساء آلام الولادة فليس بإمكان من لم يجربها أن يعرف ما تعني بالضبط، ومهما حاولن شرح معنى أن تعيش في جسد أنثى فأنت لن تفهم بنسبة 100% ما يعني ذلك، ومهما حاولن شرح مشاعرهن وتجاربهن فلن يقدر الذكور على فهمها بنسبة 100% لأنهم ببساطة لم يعيشوها، والعكس صحيح!
وهذا يقودني للحديث عن الكثير من المجالات التي لا تساهم بها النساء بشكل كاف، فمثلًا نجد العديد من المباني التي لا تراعي المرأة الحامل أو الأم مع اطفالها، وقد لا تكون "وهذا ما أرجحه" حركة مقصودة، ولكن عند تصميم المبنى إذا لم تكن بالفعل قد مررت بتجربة الحمل أو إمساك ثلاثة أطفال يتشاجرون حولك في مكان عام، سيكون من الصعب تذكر هذه الأشياء خلال التصميم، ومن ثم تصميم مبنى يراعي هذه الاحتياجات، لأنها ببساطة احتياجات لم تخطر على بالك لأنك لم يسبق لك أن احتجتها، ينطبق هذا على العديد من المجالات وقوانين العمل.
مشاكل العالم الأول
لا أقصد هنا الشماتة ولكن "قد" يكون من الممتع الاستماع إلى قصة كفاح رجل مشهور أبيض، يبدو وكأنه يقوم بعرض كوميدي ولكن ملامحه جادة، صراعات لا يمكنني الانتماء لها، فمثلًا كيف بإمكاني أن أتعاطف مع شخص يقول بأنه على الرغم من أن الجميع يعرفه ويملك كل هذا المال إلا أنه حزين ووحيد، أعني أحاول أن أشعر بك ولكنني لا أستطيع.
في الحقيقة هناك مسلسل أمريكي يدعى " The Slap" يروي صقة بالغ قام بصفع طفل خلال حفل عيد ميلاد، لتصر والدة هذا الطفل على توجيه اتهامات جنائية ضد ذلك البالغ، مدعية أن صفعته قد تسببت في اضطراب ما بعد الصدمة لطفلها لتشق القضية طريقها ببطء إلى المحكمة.
بإمكاني احترام المجهود الموضوع على المسلسل ومحاولة شرحه لوجهات النظر المختلفة، ولكنه لا يتعدى كونه مسلسلًا كوميديًا بالنسبة لي، أعني هل أنتم جادون حقًا، 8 حلقات عن طفل تم صفعه في حفلة عيد ميلاد؟! ولكن يحق لأهل العالم الأول أن يمتلكوا مشاكل العالم الأول!
السمنة مقابل المجاعة
هذا رسم ساخر لرجل أبيض أمريكي يقرأ في صحيفة عن المجاعة الأفريقية قائلًا بأنه "يشعر بذلك" حيث أنه يعاني من آلام في المعدة معظم الأيام، في الحقيقة كلاهما يعاني من آلام في المعدة، ولكن هل حقًا يحق لمن يعاني من ألم التخمة أن يقول بأنه يشعر بمن يعاني من ألم المجاعات، باعتبار أن كلا الحالتين عبارة عن ألم معدة؟!
في النهاية وبعد كل شيء
كل هذا لا يمنع من الاعتراف أن بعض الأشخاص متعاطفين بشكل أكبر من غيرهم، وبعض الأشخاص أقدر من غيرهم على فهم الآخر، وبالتالي لا يجدر بنا التوقف عن محاولة فهم الآخرين وسماع حكاياتهم، من خلال القراءة والاستماع ومحاولة فتح عقولنا وقلوبنا، دون أن ننسى أن علينا التواضع والاعتراف بأن بعض الأشياء لا يمكننا فهمها أو الشعور بها أبدًا مهما حاولنا أو اقتربنا من ذلك!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات