هل مازلت تقرأ رسائلنا بعد خمسة وعشرين عاماً؟ أتعرف مازالوا يلاحقونك، ويحظرون كلماتنا البراقة عنك التي لا نملك سواها..
ماذا حل بوجهك يا ظريف الطول يا أسمر؟ من أين أتتهم فكرة من الجحيم كهذه؟ أن يفجروا وجهك، أنضر ما لديك، فكرة مواتية جدا لأحقادهم الشديدة تجاه وجهك المتعدد، الملتوي، لوجهك الذي لم يحصوا أشباحه التي تطاردهم حتى قال كبيره " أخشى أنه يجلس بيننا في الكنسيت"، أين نثروا فتات وجهك؟ كيف تبعثر ضياء عينيك؟ بل أين تبعثر ضياء عينيك؟ تبعثر في قلوبنا من جيل الانتفاضة الأولى وحتى جيل الهزيمة الذي نعيشه وتبقى ذكرى رحيلك انتصارنا الوحيد، لماذا يتوهج القلب بك كلما عادت الذكرى، وينفلق الصبح بعطر الياسمين في برد كانون الثاني؟ لماذا نكبر ويتوسع ثقب قلبنا بفقدك، ونفقدك بكل ذكري حتى الخامسة والعشرين كأنه الفقد الأول؟ لماذا نشتعل بك بحماسك يا قليل الكلام يا زين -رغم أننا فقدناك صغاراً دون العامين أو هكذا كنت أنا على وجه التحديد؟ لماذا يحاصرون طيفك فينا نحن المجبولون بالهزيمة أو هكذا أرادوا لنا حين كسرونا في بكر شبابنا، ولماذا وحدك دون سواك من الشهداء حاضراً نضراً في ذاكرتنا الجمعية، في ذاكرة الشهداء الذين لحقوا بك بعد ثمانية عشر عاماً، الصغار الذين لم يروك ولم تكن ذاكرتهم البكر تشكلت بعد لتحفظك، هل تناقلوا الفخر والفقد عن تكبير ودمع الوالدين، أم ركبوا آلة الزمن ليكبروا ليوم عرسك السماوي بذاكرة ناصعة يملؤها وجهك؟
اذكرا أحد هؤلاء الشهداء في جامعة عين شمس اثناء المظاهرات المناهضة للانقلاب-هندسة عين شمس- على وجه التحديد يا مهندس، الشهيد عبد الرحمن يسري في مقتبل العشرين من العمر برصاصة مستقرة في الصدر، والذي لليوم افتح حسابه على الفيس بوك، فأرى صورة الحساب "أنت"، كيف حضرت في عمر هذا الشهيد الذي لم يتجاوز عمره العامين حين ارتقيت، على موعد اقتراب الذكرى السابعة لرحيله، استشهد في نفس شهرك الثاني عشر من كانون الثاني 2014 فهل كانت مصادفة؟ أفتح الفيس أبحث عن الحساب الذي لم يتغير فيه شيء منذ سبع سنوات، أفكر في إرسال إضافة للشهيد، أتردد وأتابعه فقط، ماذا أنتظر من متابعة كهذه؟! أن ينشر شيئا ما بوست جديد أو تويته.
لماذا بقيت يا يحيى دون سواك بصورتك التي كلما نظرت إليها خلتها تبتسم رغم أن لا صورة لك مبتسماً، هناك شباب من الخذلان يأتي فيه ذكرك ضياء من الانتصار في أخر النفق، خمسة وعشرون عاماً ويحاصرون طيفك فينا، فلماذا أنت دون سواك؟ أتأمل تاريخ رحيلك مقتبل العام ورمضان، انظر إلى عمرك الذي يشبه أعمارنا وجيلنا المفتوح قلبه بجرح الهزيمة وقفت على ناصية الثلاثين فلم تخطو إليها، لتبقى كلما نظرنا إلى وجهك تشبهنا وتشبه رفاقنا الشهداء الصغار.
هذا الشهر من كل عام -يناير أو كانون الثاني-يقرر أنه شهرك، هذا الشهر كمقتبل عام جديد، يبقى فيه ميلادك، الميلاد الوحيد الملائم لطقوسنا، يوم استشهادك عيدنا المحلل بعد الفطر والاضحى، لا احفظ تاريخ الولادة البيولوجية خاصتك ولا احد بالكاد يحفظ لأيما شهيد تاريخاً كهذا، لأن اللقب يولد يوم الفقد "شهيد" يوم الفقد الذي نتعوذ منه نحن وأحبائنا، هو يوم اللقاء الآمن الوحيد "لكم فيه الأمن ولنا طيف زهرة الحنون التي بلغت الشمس" مرهونون نحن يا يحيى بحب الأيقونات هكذا جبلنا على الاحتفاء بالنجوم الوليدة لأن ظلمتنا على ما يبدو طويلة، أقمارنا تأفل سريعاً لكن النجوم سخرت بديمومة الألق، يخبئها لنا الآباء ونخبئها للأبناء، لذلك يهابونها، لا استطيع ألا أورد هنا مقولتك الشهيرة بيننا وشبه الوحيدة يا قليل الكلام يا زين، لم تكن يا يحيى لا صاحب سلطة كلامية ولا كتابية كالتي تروقنا فنقتبس منها الاقتباسات، عشت مخلصا لهذه المقولة الفريدة "بإمكان اليهود اقتلاع جسدي من فلسطين، غير أنني أريد أن أزرع في الشعب شيئاً لا يستطيعون اقتلاعه" وقد فعلت فحتى بعد خمسة وعشرين عاماً، يطاردون طيفك، كلامنا الكثير عن افعالك-فنحن جيل مخلص للكلمة التي لا يملك أكثر منها- نحن كلاميين يا يحيى ولم تكن ممن يحب ذلك.
يا صاحب الكوفية المطرزة بالحنون ومن أبهى منك في ارتدائها، ارتداها من ارتداها من الشهداء والمقاومين بعدك الكل يتتبع فيها عطر زهرة الحنون، التي أتت بالربيع باكرا جدا، لكن الكوفية بقيت عالقة بذكرك وإرثاً خاصاً لك...
يا صاحب الكوفية المطرزة بالحنون...
لك السلام.
*ملاحظة على هامش المقال:
لم يكن مخططاً أن انشر المقال في الذكرى السابعة لاستشهاد عبد الرحمن يسري 12/1/2014، لكن على ما يبدو كان مقدراً، سلام الله للشهداء جميعاً ولنا.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات