يعد زهر القرنفل حديثاً رمزاً لعيد الأم، للحب الذي لا يمكن نسيانه، وأنا أحب القرنفل وأحببته أكثر بأسطوريته اللطيفة تلك، فهل نبدأ معاني الرحلة بعطر القرنفل؟

من محدودية تجاربي ومتابعة تجارب العديد من الأناسي -أتقصد جمع إنسان- لربط الشعور بالإنسانية، يتملكني شعور قوي بأن الألم هو أعظم أدلة روح الله في الإنسان وإلا لماذا لازلنا نبتسم وخاصة أولئك الناجين من أوجع معارك الجسد والنفس معتقلات أعتى الأنظمة مثالاً، لكن بالعودة إلى تجربتي المصغرة عن الألم أجزم أنه أطهر قنوات الوصول إلى الله والتعرف إليه، إدراكي للنعم وللأفراح الصغيرة ولذاتي عن طريق الحزن والألم النفسي والجسدي أصدق من مسالك السعادة والمنح، وهنا محطة الأمومة أكبر محطات المعرفة التي نظن عابثين أن التوقف بها يكون عابراً وأن القطار سيكمل بنا لغيرها، نكتشف أن نزولها خدعة كبيرة، متاهة واسعة وعوالم لا متناهية، ليست محطة استراحة لاستكمال السير السابق ذاته، بل محطة العوالم، لاستكمال الطريق بها وليس بتجاوزها، تتفرع منها القطارات والسفر بينها لا يتوقف، في حين يظن الغير أن توقفنا بالأمومة معارضة للزمن، للتقدم المجتمعي أو المفروض علينا اجتماعياً، نكون عند مفترق عوالم ومحطات لا متناهية من الجنون والصراعات ما بين أي القطارات سنختار داخل اللانهائية وهل بالإمكان العودة للقطار الخارج، الأمومة بمحطاتها الداخلية تؤل إلى الخارج لكن بوعي أكبر وحكمة أعمق وتسارع أقل.


قطار الأمومة غير محكوم بسرعة العوالم الخارجية، محاولة التسارع مع الخارج تؤدي إلى التمزق، قطار الأمومة قطار التأمل والتفتح على عوالم داخلية جريحة، السفر مستمر يومي بين المحطات الداخلية نتوقف فيها أو في بعض منها للتشافي ثم الإكمال ثم العودة في يوم أخر لها أو لغيرها من المحطات غير المتوقعة من الذات، في البؤر العمياء من الذات، بؤر ليست عمياء في ذاتها لكننا إذ نخشى إبصارها فنستعميها، نعتقلها في الظلال لسنوات بحجة العمي، ينير إليها مصباح الأمومة نكتشف كذبتنا بتفضيلنا إبقائها في البقعة المظلمة، لتبقى ألآمها مخدرة، الأمومة تشرط الجراح كجراح لابد له أن يخرج القيح لينظف الجرح، تشرط فتؤلم، تضغط على الحرج فنصرخ، تطهر الجرح فيبدأ التعافي، يوخز الجرح علامة للتشافي ثم نستأنس ندبة الجرح المتعافي ونمضي ممتنين للأمومة وللجراح التي نحملها والتي حملتنا إلى الله وإلى حكمته الأزلية التي تتكشف لنا حتى أخر المسير وفي كل يوم وما ننقص منها إلا كما تنقص إبرة المخيط من البحر.


يورد على عزت بيجوفيتش في كتابه-هروبي إلى الحرية (إحدى حجج الحركة النسوية أن المرأة خلال الفترة الماضية عرفت كأم وحان الوقت لكي تعرف كشخصية، وفي الحوار حولهما: الأم والشخصية، نجدهما مفهومين متناقضين. أحببت أن يوضح لي أحداً ذلك!

اعتقدت دائما بأنه لا يوجد ما هو أكثر ذاتية وغني في الشخصية من الأم، الأم شخصية سامية)، وهذا ما أمتلئ به ويزداد إيماني به مع كل يوم جديد بعد عامين ونصف من الأمومة، ينقص هذا الإيمان احياناً بالأخص كوني أم أعمل بدوام كامل في المنزل، تثقلني نفسي بأحاديث من نوع " مفيش أي تقدم لي علمياً أو عملياً، أو انه تقدم بطيء للغاية" في حين أدراكي التام أنه لا يوم يمضي إلا وأنا أتعلم جديد ولو نصف ساعة فقط، ليس الجديد من طفلي فقط ولكن على مستوي قراءتي والكتابة التي تطورت وعلى مستوي محاولة فهمي لذاتي وتحسن صحتي النفسية وإن فشلت أحيانا وانجرفت لمشاعري المتضاربة، لكني أعود للتوبة وصلاة التربية والطفل الذي هو الكتاب الفعال، الكتاب الإنساني المحتم علينا تأليفه ما إن ارتضينا بخيار الأمومة، فقد وجب أن نفهم أنفسنا ليخرج إنسان سوي النفس، أن نشفي جروحنا بنبشها وتطهيرها وتعقيمها لألا نمرر إليه ألآمنا، لأجد أن الأمومة هي منزلة الإبصار من الرؤية ومنزلة الحكمة من العلم ومنزلة الأدب من الكتابة، فتحت لي الأمومة أول النفق للتعمق في الذات والذي بحثت عنه لسنوات في الكتب والأدب والرسم، طريق الغوص في عوالمي وبداية الوعي ومحاولة الإصلاح، محاولة ترميم جراحنا الداخلية وطريقة التعاطي مع مشاعرنا وعلاقتنا قبل تربية هذا الصغير النقي جدا، فهو ليس بحاجة إلى إصلاح، هو مخلوق بفطرة أنقى من كل معادلات التربية، هو بحاجة إلى تأسيس سليم من نفس سوية ما استطاعت في سعي للمحافظة على فطرته سوية كما خلق بها.


حبي للقراءة كان غرس والدي الأصيل بمكتبته الفريدة التي نشأت أراها، كانت مكتبة نفائس ومجلدات مرجعية، أما عن الجامعة حين بدأت قراءة الأدب بإذعان من صديقة ممتنة يا الله أن سببتها في طريقي، وممتنة لها إلى يومي هذا، بدأت بقراءة الروايات وعالمها السحري، ولا أقصد هنا روايات الخيال ولا الفنتازيا، فقراءتي تميل للرواية التاريخية والسير الذاتية إلى أبعد حد، السحر كان الوصف والمشاعر التي تجعل منك أسير الحكاية كأنها حكايتك، بالعودة إلى قراءة الأدب، بدأت القراءة وانتقاء الاقتباسات التي تلمس قلبي وتدوينها في مفكرة صغيرة، ثم نشرها على فيس بوك في محاولة للتعمق-لتصبح عميق- محاولة جادة للتعمق والوصول إلى الحكمة وتهذيب نفسي بقلة الثرثرة، ما كنت أغبط عليه صديقتي بشدة، مع تراكم القراءات، تفتح قلبي للكتابة والتي لها بذور منمنمة في المرحلة الثانوية في محاولة أكثر جدية للتعمق، سطر، أربعة، عشرة، فقرة ثم مقال أول وثاني ومحاولات، لكنها بقيت سطح على السطح، بدأت الحوادث المفجعة بالتراكم المفاجئ الكثيف بدأً من العام الثاني بالجامعة، لم اتجاوز الحدث بالكتابة لم أجرأ، فقط كان الجرح يتعمق ويكتم بشاش أبيض من الصمت يحشر فيه ويلوثه، ونظن بأنفسنا تجاوزه، حتى جاءت الأمومة، الألم الملموس المتوحش في أول ضرباته المخاض، ثم الألآم النفسية التي تلي الأمومة من مفاجئة بقطعة لحم باكية بحاجة إلى مجهود عظيم مع قلة نوم، وتيه كبير بأن كيف أتعامل معه؟ ثم اكتشاف ورطة العيش على طول الأمومة -التي متى بدأت لن تنتهي-عيش بالتوازي مع شعور دائم بالذنب يزيد وينقص، أتعالي على صوته بإخفاضه أيام ويهزمني أخري، كل هذا يتحمله قلب اكتشفت بعد ستة وعشرون عام أنه صغير، خلق صغيراً وبه منفذ ضعف خفيف، وإذا بالأمومة تضرب على الجراح جميعها بالتيه أولاً ثم بالتفكير والبحث ومحاولة التعلم واستخلاص وقت النفس الصغرى (الأنا) من وقت النفس الكبرى(الطفل) والذي مرهون بمزاجه وتقلباته الوقت والمكان، ورغم كوني شخصية على الأغلب اجتماعية سلسة في تكوين الصداقات ومنح الحب والثرثرة-بحبوحة- كما يقولها المصريون، إلا أن الضجيج المتواصل يربكني ويسبب اضطراب صحتي النفسية، لابد من وقت اعتزل لا أحد فيه ولا صديق حميم إلا النفس، أعود إليه وأتزن، زاد هذا الوقت تقديساً وجودة مع الأمومة ابتداءً من صلاة الأوابين-الضحى- يتبعها فنجان القهوة الصباحية، القراءة والكتابة ثم العناية بالنباتات والزراعة، الكتابة التي قفزت وتطور بعد الأمومة رغم ضيق الوقت، تعمق إيماني وبشدة بمقولة (المرء نتاج خلواته) باتت الخلوة الصباحية لدي رغم الارهاق وقلة النوم حمام دافئ للدماغ ومساحة حرة من السكينة للنفس، أتتبع بها نفسي وأحاسبها وأترفق بها في الاغلب، قرأت أقل لكن بتعمق أكثر، كتبت أكثر وإن كان بمعدل بطيء، وجودة أعلى، بدأت التعمق الحقيقي.

الأمومة في أوجع محطاتها المخاض ضربت القلب فأعادت الروح والشعور الباهت المسلوب، "فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة" الإسراء..

الأمومة آية مبصرة كمطلع النهار وشمس التاسعة صباحاً في أيلول ونيسان، إبصار وتبصر وبصيرة، كثفت الشعور، أشعر بأمي الآن والأمهات بشكل أفضل، أشعر بصدق، أشعر بالحزن أعمق، بالجراح التي تحملها الذاكرة من الثورة والخيبات التي عشناها أعمق، في السابق لجأ دماغي للهرب، يطفئ محطات بعينها فيبلد الألم، لكن الجرح لا يشفى بل يتلوث ويؤذي، كان الدماغ يخدر الألم، الأمومة أول الوعي بعد الخدر، الشعور أول طريق الشفاء، حتى الفرح والتسبيح أصدق الآن، تبتسم أعماق أعماق قلبك لزهرة تفتحت حديثاً في شرفة المنزل، أشم عطر الياسمين والقرنفل فيصل إلى أيسر الصدر مباشرة دون تكلف ويبقى محفورا بالذاكرة الأنفية الغضروفية الصغيرة، الابتسامة التي يخلفها الطفل وعينيه اللامعتين واندهاشاته الصغيرة هي شفاء للجروح وتفتح للبصيرة، أفكر في كلماتي والمفاهيم التي أمررها لطفلي، أتحرى الصدق وأخطـأ كثيراً وأعتذر كثيراً لكن أتحرى الصدق وزرع الثقة به، لأكون له الزراع والسند والحليم الذي لا يخشى غضبه وأن يأتي مخطأً فيعترف خيراً من أن يواري، طفلي بعد صغير جداً عاميين ونصف من العمر لم نصل بعد لمرحلة التحديات، لكن أدعوا الله أن يحميه من نفسي ومن نفسه ومن الشرور حتى شرور نفسي التي أظنها خيراً له، وألا أؤذيه وألا أهين وجهه ولو مرة واحدة ولو كان خطأه كبير، فما ضرب صلي الله عليه وسلم بيده شيئاً قط.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

أحسنتِ ياهاجر ❤️😍

إقرأ المزيد من تدوينات هاجر الذهبي

تدوينات ذات صلة