لم أجد أفضل من الياسمين صورة لخواطري، فعطره أفضل أدلتي عليك، أيها الشهيد...
دارت السنة وعدت يا آب يا شهر المحازن والمجاريح، كم سنة مرت وأنا أقول سأكتب عنهم؟ عن المشاعر التي علتني بين الجموع، عن السكينة يوم العاشر من رمضان، عن اختناق القلب يوم العيد، والجسد يحمل ثقل تعبه وثقل عينين تجمد عنهما الدمع وهما مريدتان، توا وصلنا يا أبي، بالكاد صلينا قيام ليلة العيد، وفجره ثم كبرنا وصلينا عيدنا الأخير، فقط لو كنت أعرف أنه العيد الأخير، انقضت الصلاة فوجئنا: يلا مروحين- كأن أربع ساعات سفر كانت مشوار حسبة نص ساعة- حرمنا المغامرة والمخاطرة تحسبا لخوف الوالد لكوننا معه، بعد الرابع عشر يا آب، هل كنت لأرضى لولا هذين اليومين -لو حسبناهم يومين- لما سمح لنا الوالد أن نزاحم الحضور والوجوه التي مررنا بها ولم نعرف أيها بقي وأيها استشهد، فقط لو عرفت ربما كنت وقفت طويلا أمام كل وجه قابلته حتى أحفظه، لربما حين عرضوا علينا شهداء، لوقفت طويلا وقلت: أنا قابلت الشهيد، لكني لا أذكر أي من وجوههم لا أعرف إن كنت مررت بوجه شهيد أم لا، لكن الأكيد أني شممت رائحة الياسمين في دمائهم على أعتاب الميدان ليلة العيد، كيف لشهر أن يكون ثقيلا مثلك يا آب؟ يا شهر المجاريح.
من يكتب عن الشهداء؟ هل بقي من يكتب الشهداء، تلك الأيام عشنا لأول مرة حديثا حقيقيا طالت أيامه عن الشهداء، ثم انحصرت، عايشنا وجوههم وجمالهم وإنسانيتهم وبشريتهم وكراماتهم الملائكية، كنا فيما مضى نسمع عن الشهداء حصرا وقصرا في البعيد الذي نحلم به، فلسطين، بعد ال45 الحاشدة بعد الأربعاء الأغسطي، عشنا ما يقارب العامين ولحسن قدري كانتا في فترة الجموح الجميل، الجامعة، فترة الأنفس الحالمة، الاستقلالية المغرية، الثقة والالتفات، قرأنا وصاياهم ورأينا نعوشهم والرصاصة التي توسطت صدر اليافع في مطلع العشرين – مثل عمري- فرقته شهيدا، أفضل ما في العامين أن الشهادة كانت ممكنه قرب المدرعة التي ركضت خلفنا ذات مظاهرة، فظننت من قربها وسرعتها أن تدهسنا، الأجمل كانت الجنة قريبه قرب الشهداء، وأن النبي قريب، قرب الهتاف من الرصاصة، يده على مقبض بابها، وابتسامته التي اشرقت لها الخلائق، أقرب من باب الجامعة، الذي يمسك به الأمن المركزي.
أفضل ما كان أن الشهداء ذكرونا بالله، تسابقنا في حمل المسابح الرقمية واستيفاء أوراد الاستغفار والتسبيح، ابتسامات الشهداء كانت تشخيص الجنة وأنها ممكنه، بعد العامين خفت الأمل، قل الشهداء وكثر المغدورين، المعتقلين، وقلت الأيدي التي تصفق كأنها لم تكن يوما هنا، قل الحديث عن الجنة، توحش صوت الخوف فعادت الدنيا وارتفع صوتها، عندنا يعلو الخوف تعلو الدنيا معه وتبتعد الجنة، انضرب المربوط فخاف السايب ولزم بيته، ذُر ضباب الخوف وملئ العيون، غيمت الغفلة وقلت الأوراد فابتعدت الجنة.
اعود اليوم، لأبحث بين دفاتري وأوراقي القديمة، عن وصية كتبها الشهيد لأخته، سأبحث من جديد عن الشهداء لأسألهم كيف تلقوا الرصاصة ؟ ألم يخافوا ألمها، حقا هكذا مليا فكرت، ماذا لو تلقيت الرصاصة، هل بالإمكان الصبر على معدنها ينصهر بين جلدي ولحمي، أنا شخص يربكني الألم، يربكني بشدة، يربك حتى تفكيري ومعتقداتي ويملئني بالتساؤل، سأبحث عن وصيتك يا شهيد، تعرفني وتعرف أني أقصدك، لعل الجنة تقترب، لعل للحلم أن يعود ممكنا كما كان، عسى للقرآن الذي تخشع له الجبال، أن يقطع أراضي الران ويكلم موات القلب، في العامين كان القرآن يفعل، ولم يتغير القرآن، تغيرنا، ثقيلة هي الكتابة يا شهيد، أهكذا تكون الكتابة للعائد بعد فتور شديد، هل عادت بكثرة الدعاء أم ببركة الشهيد؟
يا حسرة القلب يا ميدان، أتعرف أن صوت رصاصة واحدة من الأمن قد أفزعتني يا شهيد، خجلت من قلبك المثقوب، كيف تحملها ولم تتحمل صوتها قدماي، ركضنا ومن خوفها اسقطت صديقتي حاسبها اللوحي-اللاب توب- بل كادت أن تتركه خلفها غير أسفه، أتذكر ذلك اليوم؟ نعم هو، عندما خرجنا نهتف لك، فطاردتنا مدرعة الخوف المركزي، وعندما التجأنا إلى بيت يقينا من الاعتقال، طردنا صاحب البيت -و يا للأسف لأننا اختبأنا على السلالم- لم يحزنني طرده لنا، بقدر خزيي من خوفي، تعرفت لأول مرة عليه، كم هو كبير وبإمكانه ابتلاعك، علمني الخوف ضآلة عملي وعظمتك، ومن منا لا يخاف؟ ألا يخاف الشهيد، كل البشر يخاف، والشهداء أشدهم بشريه وأفضل البشر -صلى الله عليه وسلم- قال خشيت على نفسي، ما ليس سهلا أن تستمر بالوقوف بين الخوف وأنت تخاف، وهكذا وقفت يا شهيد.
الكتابة أحبها لكنك تجعلها عبئ ينهك الأكتاف، أي بلاغة تلك التي تليق بك، وتعيد نور وجهك ليهدي الصغار الذين ضلوا بعدك، وصارت الجنة آمنة الوصول لديهم، فيفعلوا ما يحلوا لهم، فالتوبة متاحة لاحقا، تفكير مثير أليس كذلك؟ لكني أستحث الصغار الضالين -وأنا منهم: لم يتأخر وقت التوبة، لكنه فيما أظن قد حان.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات