كيف تُلمس الدهشة وتتمشى التسبيحة على حواف القلب، فيُحس وقع خطاها؟ يجيبني الياسمين.
يقال في الكتابة الأدبية لتصف لابد أن تتوغل في الشعور، تتوغل في تفاصيل اللون، الشكل، المذاق والرائحة لتملك مشاعر قارئك فيشارك بحواسه وذاته في حكاية لتصبح حكايته، أحاول استجلاب الشعور واستجداءه، أرص الكلمات الجديدة والدافئة التي أقرأها في مقال أو رواية، أحشرها في مقال لأبعث الشعور داخلي في الكلمات مثل:" سكينة، دهشة، سلام " في النهاية أجد نفسي أكتب مثل رشاش آلي، كلمات تتبارز لكنها تفقد الدفء، كنت أكتب بصدق! نعم أكتب عن صدق ومشاعر جارفة، حماسية داخلي لكن أكتب كلمات فخمة كخطبة جماهرية أو كلمة حماسية لرمز مقاوم، ليس كنهر وديع التدفق، نصائح الكُتَّاب كانت أن تقترب من الطبيعة أن تلمس التراب، وتعانق المطر ورذاذ البحر وتتخيل أشكال من الغيوم " لا تصف كيف كان المطر في ليلة نزول كبير الملائكة ولكن اجعلني أبتل" كما يورد أحد الكُتّاب، لكني كنت اكتب عن المطر ولم أكن أبتل فكيف أجعلك تبتل! أن تشعر بالكون بعيدا عن علم التشريح، فتجيز الكلام السردي الصلب فيذوب جليده بشمس ربيع دافئة تستمدها من الشعور.
كلمات مثل دهشة، سلام، دفء، سكينة، بالفعل كانت تأسرني، وكنت أفتقر الشعور، بعد الياسمين، أدركت غزارة الشعور، كثافة الشعور، الدهشة بالفروع الخضراء الجديدة، الفرع الممشوق والمتطاول في شرفة بيتي، الذي اعتنيت به وربيته منذ خرج من التربة محمرا وغضاً جدا، ليصبح أسمك وأنضر وأقوى الفروع، وأفضلها إنتاجاً للزهر، هناك في أعلى تفرع له حيث لا أبلغه إلا بمخاطرة الوقوف على كرسي والاستناد إلى جدار الشرفة، موقنة من قطاف أنضر وأجمل وأكثر الأزهار عطراً، سبحت تحت جلدي وتوغلت من غضروفي الأنف "الذاكرة الأنفية" -كما أحب أن أسميها-حتى دماغي رائحة الشام التي يتغنى بها أهلها "ياسمين الشام" أغنيات فيروز "يا دنيا شتي ياسمين" وهدى حداد "درج الياسمين" وأنا أهوى الشام وأنتمي رغم اختلاف الموطن إلى الشام، في مقال سباق جدا قبل الياسمين، كتبت عن الشام والياسمين، الآن أعرف الشام وعطر الشام وأحن بكثافة شوق المغترب إلى الشام، وسأكتب أفضل- إن فعلت يوماً- عن الشام، لي صديقة سورية مغتربة في بلاد الله البعيدة جداً، تعرفت إليها إلكترونيا من قرابة العام، حادثتها صوتيا لمرة واحدة، سألتني بعد متابعتها لتصويري المفرط والمحبب للياسمين: ياسمين شامي اللي عندك؟ لم أكن أعرف في البداية، أضافت: اللي عندنا ياسمين صيني بلا رائحة، شعرت بسعادة وفخر اليافعين حين علمت أن الياسمين البلدي-كما يسمى لدينا- هو الشامي، كما يسمى الورد الجوري-بالورد البلدي لدينا كذلك في مصر-بلغتني بحتة الحنين في صوت صاحبتي، بحة الذاكرة المشتاقة إلى رائحة الشام التي غادرتها وليس بالإمكان عودة إليها، هي تعرف الشام بكلها وأنا شابة وأم لازلت ألاحق شغف الحنين المفرض غير المبرر إلى الشام، ألاحق خيوط الانتماء التي غرستها أمي وهي تخبرنا أن أصول العائلة تعود إلى الإمام الذهبي في الشام.
أخذني الياسمين إلى الشام وسابقاً أخذني إلى الإيمان العميق، إلى تسبيح يمس حواف القلب، إلى صلاة القلب، يورد على عزت بيجوفتش في كتابه-هروبي إلى الحرية- عن تأمله "بالتفكير بهذا كان قلبي يخفق دائما، وثانية وكان ذلك بالنسبة لي حدثاً دينيا بامتياز، وإن كان من الحقيقي أن الصلاة في الداخل وليس في الخارج فإن هذا التأمل بزهرة الهندباء، كان يعني لي في كل مرة صلاة حقيقية وصادقة أكثر من أي صلاة قمت بها في حياتي" يمكنني الاكتفاء بكلماته تلك لوصف حالتي الشعورية وأنا أتأمل زهرة الياسمين "زهرة عقلة الأصبع" حين احملها بين أصابعي وأتابع انضباط بتلاتها البيضاء، موضع الالتحام الأحمر في البرعم الناضج، الذي تنفصل عنه البتلات عند التفتح كحبل سري.
أوسط البتلات في المنتصف، شفتين ذهبيتين دقيقتين للغاية، زارتني فراشة، أدخلت خرطومها الخيطي الدقيق لتتغذي "سبحانك " من كان يدري أن يكتب في صحيفته "رزق النحل والفراشات"، تكررت زيارات الفراشة-فراشة الياسمين- أبتسم، قلبي يصلى، تمس جبهة التسبيح جوف القلب، هل يصح عن هذا مصطلح "العشق الإلهي" أو "عشقا بالله" كما ينطقها الأتراك؟
أجمل ما أوصلني إليه الياسمين هو الدفء، الدهشة وكثافة الشعور وعذوبة الكتابة الحقيقية والرحيمة، المتدفقة بلا تراشق ولا فصحى مبالغ فيها، رغم عشقي للفصحى لكنني الآن إلى جانب انسياب الفصحى على تراشقها وتبارزها، قبل الياسمين كانت الأمومة عذاباتها ودفئها وحكمتها، لكن الياسمين فعل الشعور الصامت لينطق، وألجم الشعور المتأجج بالحكمة وهذب الألم والارهاق بحلاوة الشعور والبذل ليكون عذاباً نبيلاً محموداً، أقول الياسمين لكنه الله، القدوس الذي يبعث الأقدار واللطائف والسلوى بحجم (عقلة أصبع)، سبحانك لك العظمة والمجد، أنت السلام ومنك السلام، تباركت وتعاليت ياذا الجلال والإكرام.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات