لماذا نملّ من الأسلوب والكلام الطيّب، ولا نملّ من الأسلوب والكلمات القاسية؟

________________________________________________

نتساءل بكثرة، ونحار في كلّ مرّة، لسنا نعرف: هل الحلّ مفقود، أم أنّنا نرتضي القيود؟!

لماذا نملّ من الأسلوب والكلام الطيّب، ولا نملّ من الأسلوب والكلمات القاسية؟؟ لماذا إن تحدثنا مرّةً أو مرّتين بأسلوبٍ ليّن ولم نصل إلى ما أردنا لجأنا إلى أسلوب التّعنيف والصّراخ والغضب دون أن نكلّ أو نملّ، واتّخذنا عدم ظهور النّتيجة عند استخدامنا الأسلوب اللّيّن عذرًا، ولم نفكّر بإعادة استخدام الأسلوب اللّيّن مرّات ومرّات دون كلل أو ملل؟! أو على الأقل نستخدم أسلوب الحزم دون إزهاق روح تلك المشاعر المرهفة! لماذا لنا القدرة على المواصلة بالأسلوب العنيف، وليس لنا القدرة على الاستمرار بالأسلوب الحسن؟؟ لماذا يستسيغ كثيرون جرح مشاعر الآخرين؟؟ ألسنا بشرًا لا نرضى لأنفسنا القسوة؟؟

يُعلّمنا قدوتُنا الحبيب ﷺ ما هي الشّدة؟ وما هي القوّة؟ فلم يقل إنّها في بطش أو صراخ أو أذيّة، بل أَمْر أسمى وخُلُق أرقى؛ إذ قال ﷺ: "ليس الشّديد بالصُّرَعة، إنّما الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب". فالغضب سبب كلّ بليّة؛ فكم من كلمة قيلت، أو موقف حدث كان هيّنًا، ولكن بسبب الغضب انقلب جحيمًا؟

ما أشدّ أن تمضي الأيّام، وتطلع الشّمس وتغرب وما زالت المشاعر بالجراح مثخنة، قد يكون مرور الأيّام كفيل بإيقاف نزيفها، ولكن كيف لها من التئام وقد بات الجرح عميقًا؟ ما أصعب أن نسترجع ذكرياتنا بحلوها ومرّها، ثمّ تنغّص علينا بعض المواقف المؤلمة!

كلّ الجراح ستُنسى حين تلتئمُ إلّا الجراح الّتي يأتي بها الكلمُ

القلب الّذي لا ينسى يتعب ويمرض، القلب الحاقد يهلك ويُنهك، ولكن لا يعني أنّ الّذي يَصفح لا يُجرح، إنّه يُخفي تحت ابتسامته وجعًا، وتحت حديثه الهادئ ضجيجًا. إنّه اختار أن يتناسى لكي يعيش ويسمو، ولكن هل تناسينا أنّ قطرات الماء المتتابعة قد تُحدث شرخًا في صخرة؟ وحبال الدّلو تؤثِّر وتحفر صخور البئر بتكرار سحبها؟ ورصيد العاطفة -إن كانت المَسحوبات أكثر من الإيرادات- فستكثر الدّيون وبعدها يصعب عليه أن يستقبل أو يرسل؟ قد يكون قنبلة موقوتة ما زالت تتحلّى بالأخلاق والاصطبار، وأخشى أن يصل لساعة الصّفر.

كم هي تلك المواقف الّتي تظاهرنا فيها أنّنا جبال راسية، وفي دواخلنا أعاصير شديدة! كم مرّة تظاهرنا أنّنا بقمّة الغباء والتّعامي والصّمم، ولكنّنا كنّا نُدرك كلّ شيء بدقّة! كم من مواقف تظاهرنا فيها أنّنا بلا مشاعر، وفي قلوبنا تتصادم أمواج عاتية! كم هي الابتسامات الّتي تظاهرنا بها، وخلفها كانت غصص مخفيّة! (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

وإن كانت المواقف المؤلمة لا تُنسى؛ فإنّ المواقف الحانية أيضًا لا تُنسى. كعب بن مالك بعد أن تخلّف عن غزوة تبوك، وظلّ أربعين يومًا لا يتحدث معه أحد نزلت آية التّوبة عليه وعلى رفيقيه؛ فدخل المسجد والصّحابة هناك؛ فقام طلحة يهرول مستبشرًا بقدومه مصافحًا له مهنئًا؛ فقال: والله لا أنساها لطلحة! إنّ المواقف اليسيرة الّتي قد لا نُلقي لها بالًا تُحيي قلبًا أو تُميته. فأنّى لنا أن ننسى القلوب الّتي كانت لنا مُطَمْئِنَةً مُسَاعِدَة في وقت الضّيق، ومُشّجِّعَة مُصَفِّقَة وقت الفرح. والقلوب الّتي خذلتنا وصفعتنا وقت الحاجة، وامتلأت حقدًا وقت نجاحنا وسعدنا؟!

كُن بلسمًا، داوِ جروح الآخرين، وامسح دموع الباكين، ومُدّ يديك إلى العاجزين، وازرع الابتسامة في قلوب الناس أجمعين. كُن نسمة يعشق لطفها كلّ العالمين، تُفرح قلوب البائسين، تُحيي الفرح على مُحيّا الآخرين. كُن قدوةً بالاتزان في انفعالاتك، سجيّتُك اللّطف والخلق الحميد، وحين يقتضي الأمر حزمًا امتطِ الحزم، ولكن إيّاكَ أن تخلع الأخلاق! عامل بما تُحب أن تُعامل، والسّلام على من كان للقلوب سلامًا!



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

قال تعالى:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِنَ ۞ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ فِی ٱلسَّرَّاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَٱلۡكَـٰظِمِینَ ٱلۡغَیۡظَ وَٱلۡعَافِینَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ } آلِ عِمۡرَانَ:١٣٣ - ١٣٤

إقرأ المزيد من تدوينات أسرار الأرحبي

تدوينات ذات صلة