"لا بد وأن نسعى جميعا إلى الحفاظ على الهوية والسمات المصرية الأصيلة"
عندما كنا صغارا، كانت هناك عبارات تمثل لنا قانونا صارما في الأخلاق العامة والعلاقات الإنسانية. هذه العبارات مثل "ما يصحش يا بني"، "عيب يا حبيبي"، "إلا اعمامك واخوالك". وغيرها من العبارات الكثيرة التي كنا نسمعها من الوالد والوالدة والأخوة والأخوات الكبار ومن الأهل والأقارب والجيران.
وكان هناك تطبيق عملي لكل هذه العبارات في المنزل والمدرسة والشارع حتى أصبحت في أذهاننا قوانين صارمة لا يمكن كسرها وبلا تذمر دون الحاجة إلي محاضرات تنمية بشرية أو دورات تخصصية أو حتي قراءة كتب محلية أو عالمية.
وعندما بدأ التلفاز يتواجد في القري داخل المقاهي العامة أولا كنوع من الأنشطة التجارية ثم بعد ذلك في بيوتنا ولو أبيض وأسود ولو في حجم ١٤ بوصة، حتى فوجئنا بوصلات الرقص الشرقي وبالقبلات والأحضان بين الرجال والنساء في الأفلام والمسلسلات. واجهنا مظاهر الفن هذه بعبارات الأخلاق العامة التي تربينا عليها ونحن أطفال حتى أننا كنا نظن، بل متيقنين، أن المخرج يضع لوح زجاجي بين البطل والبطلة أثناء تصوير مشهد القبلات لأننا كنا لا نصدق أن يقبل رجل امرأة في العلن هكذا حتى ولو كان تمثيلا.
وكنا عندما نري مشهدا مخلا نغمض أعيننا سواء كنا أولاد أو فتيات وذلك تطبيقا لقوانين الأخلاق والأصول العامة التي تربينا عليها. وكنا لا نشاهد التليفزيون إذا توفي جار أو بالطبع أحد الأقارب. كان العرف وقواعد الأخلاق العامة والأصول تربي الأجيال وحاكمة للأخلاق في ظاهر الحياة العامة مهما كان هناك من كسر لهذه القواعد في الحياة الخاصة بكل فرد والتي لا يعلمها إلا الله. أما ما يعلمه ويراه الناس فكان يتقيد بالالتزام بالتقاليد والعرف والعادات والأصول بطريقة تلقائية وبسيطة بين المتعلمين وغير المتعلمين. بل كان لوم المتعلم أكبر وأشد من لوم وعتاب غير المتعلم. وكانت هناك عبارة شهيرة علي لسان الكبار عندما كنا نرتكب خطأ ما ينافي الأخلاق العامة والأصول "هو ده اللي اتعلمته في المدارس". وكان الرد بالطبع من الصغار هو الخجل علامة علي التأسف.
كان المجتمع كله يتمتع بهذا السلوك وكان الاستثناء نادرا رغم عدم وجود أي وسائل تعليمية أو قنوات تواصل لو مكتبات عامة أو جرائد أو محلات. كان تعليم الأصول والأخلاق العامة فطريا وذاتيا وتلقائيا فكانت الضغوط النفسية قليلة رغم بساطة الحياة وغياب وسائل الرفاهية التي نعرفها اليوم.
وكبرنا وتطورت التكنولوجيا رويدا رويدا وتطورنا مع تطور التكنولوجيا وكنا نظن أن الأخلاق والأصول العامة ستقوي مع كل تطور تكنولوجي يصدره لنا الغرب. ولكن وللأسف الشديد اكتشفنا أن كل تطور تكنولوجي أصبح كمسمار جحا الذي يثبت وجود الفكر الغربي ويعطيه الحق ليغير من قواعد الأصول والاخلاق العامة كيفما ووقتما يشاء وفي الفئة وبالطريقة التي يريدها ولمصلحته هو والتي بالطبع تتمحور في نشر سوس التطور لينخر في أخلاق المجتمعات. وعادت ما تكون هذه المجتمعات اما مناهضة له أو مستعملة للتكنولوجيا بدون وعي والتي يبهرها أي تطور تكنولوجي فتستعمله بلا ضوابط وبلا رقابة حقيقية.
وهكذا فعل سوس الأخلاق العامة والأصول المجتمعية فعل السوء في العادات والتقاليد والعرف حتى أستطيع أن أجزم أن هناك طفرات كبيرة حدثت في الشخصية المصرية والعربية أدت إلى ظهور سمات جديدة كلها غربية واختفاء سمات كثيرة كانت كلها شرقية. وأصبح الانسان العربي كائن هجين أخلاقيا من الأخلاق الغربية والشرقية فأصبح لا شرقي ولا غربي، وهذه مأساة كبيرة.
ومصطلح غربي هنا يشير إلى آثار التكنولوجية الغربية وما فعلته فينا أكثر مما يشير إلى أخلاق الغرب أنفسهم حيث مازال هناك العديد من الدول الغربية محتفظة بمستوي معقول من الأخلاق العامة بسبب التطبيق الصارم للقانون. حتى أن الطفرات التي حدثت في بعض الدول والمجتمعات الغربية تم تقنينها بقوانين معلومة لديهم.
وإذا كان كل ما ذكرته أعلاه أصبح حقيقة قاطعة ويدعمها وللأسف الفن الهابط واعلام متدني ووسائل تواصل لا اجتماعي، فالسؤال الكبير هل من الممكن علاج الطفرات التي شوهت الأخلاق والأصول العامة أو على الأقل إيقاف هذا النزيف الأخلاقي مرحلة أولي حتى يتم علاج ما حدث سواء علاج جراحي أو كيميائي.
"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"
الإجابة وبكل وضوح وثقة هي نعم نستطيع وقف فوري لهذا النزيف الأخلاقي وعلاج التشوهات والجلطات الذي حدثت وبأثر رجعي. الأمر فقط يحتاج إلى إرادة مؤسسية ومجتمعية على جميع الأصعدة بالتوازي من خلال قوانين رادعة على جميع المصنفات الفنية التي هي أساس كل تشوه وكل طفرة. ولا بد أيضا من عودة الطلاب إلى المدارس والتركيز على التربية وليس التعليم.
لا بد من النظر إلى هذا التشوه في الأخلاق والأصول العامة بأنه قضية أمن قومي من الدرجة الأولي. لا بد من اتهام كل من يخرب وينخر كالسوس في الأخلاق والأصول العامة بتهمة التآمر على الثوابت الأخلاقية للوطن. لا بد من معاقبة كل من يخالف الأعراف والأصول والعادات الوطنية بأقصى العقوبات حتى يكون مثلا لكل من يقصر عمدا في حق وطنه.
لا بد وأن نسعى جميعا إلى الحفاظ على الهوية والسمات المصرية الأصيلة التي لم تكن تعرف الإجرام المنظم والانفلات الأخلاقي واللامبالاة والأنانية المفرطة وعدم الانتماء التي ظهرت في فئة مجتمعية لا يستهان بها. ولا بد أيضا أن نحافظ على الفئات المجتمعية التي مازالت تحافظ على الهوية والسمات المصرية الأصيلة والتي دائما ما تسعي إلى نبذ كل الأسباب التي تؤدي إلى تشوه الأخلاق، ولكنها قد لا تستطيع في كثير من الأحيان.
مازلت أري أن فرصة التغير قائمة وستكون تاريخية إذا عملنا على تحقيقها من الآن فصاعدا .
إنما الأمم الفنون والآداب والابتكارات ما بقيت
فإن هم ذهبت معارفهم وآدابهم وفنونهم ذهبوا
حفظ الله مصر وقادتها وابنائها.
مع خالص تحياتي
ا.د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا
مقرر مجلس بحوث الثقافة والمعرفة
أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا
كاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر
www.mohamedlabibsalem.com
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات