كنتُ صغيراً بحجم قبضةِ اليدْ,أحبُّ العتمةَ والوحدة,ولا أحبُّ الكلام.
كلَّما ذهبت أمّي لابتياع ثوب,طلبت أن يكون لثوبها جيبٌ واسع,وعلى مرِّ السنين,ظلَّ الجيب سرَّ أمّي,وظللتُ أنا سرَّ الجيب.
كنتُ صغيراً بحجم قبضةِ اليدْ,أحبُّ العتمةَ والوحدة,ولا أحبُّ الكلام,جئت الحياةَ دون اختياري,وصرخت صرختي الأولى دون إرادتي,ولما أردت شيئاً لم أعرف كيف أقول أريد,فصرختُ طويلاً حتى اهترئت حنجرتي وضربت الهواء كثيراً حتى دميت يداي,فأشفقت عليَّ أمي وأسكنتني جيبها,تروح وتجيء تأكل وتنام و تقرأ وأنا معها لا تبعدني ولا أبتعد,ولمَ قد أبتعد وليس لي بيتٌ غيره ,ولا لجلدي رائحة أو ملمس عدا رائحة يد أمي وملمسها.
في الجيبِ كبرتْ,بما نفذ من النور إلى ما وراء القماش وبما تسرّب من الصلوات عبر الهوَّة العميقة,وجاء يومٌ آنستُ فيهِ ناراً وراء جيبها,أغرتني النار بتراقص اللهب و وتلوّنه وبرائحةٍ فريدةٍ لا تشبه رائحة يدي أمي,فشعرتُ وكأنَ النار ندائي وغايتي وسؤالي ومقصد إرادتي واختياري لذا وفي غفلةٍ من أمّي شددت من الجيبِ خيطاً وتسلقتُه حتَّى وصلت الحافة ,ثمَّ وفي غمضةِ عينٍ قفزتُ خارِجاً,وهناك بعد أن هدأ وهج النور عن عيني أبصرتُ درباً يفضي إلى درب, وباباً يفضي إلى باب,ووجوهاً كثيرة وأيادٍ عديدة,ولمحتُ النار في البعيد تتلوّى وتتراقص وكأنّي بها تدعوني لأمرٍ ما,جلل وعظيم.
ولما كنت للمرة الأولى سأختار ,فقد سرت بعيداً عن جيب أمي باختياري,ومشيت مستذكراً قولاً كانت أمي تقوله أو تقرؤه: "مشيت ومشى الخوف بي", لكنّي لم أكن أعرف ما الخوف,فلم ألقِ بالاً لغير وقع الجملة الموسيقيّْ في أذني ولم أكترث لغير النار التي تحاكيني وتغريني,سرتُ في الطريقِ وكانت النارُ كلَّما سرتُ إليها سارت مبتعدةً عنّي ,وكلما ابتعدت زادت بي رغبة قربها وظللت سائراً حتى بلغتُ آخر الطريق و هناك رأيتُ منعطفاً فسلكته وامتدَّ بي زمناً طويلاً,والنار تخفتُ وتبتعد وأنا يرهقني السير حتى أنسى ما الغايةُ من سيري و طريقي,وفي كلِّ طريق ظهر لي طريقٌ ثانٍ حتى تشعبت بي الطرق,وحين وقفت لحظة أنظر ورائي فلا أرى جيب أمي وأنظر أمامي فلا أرى ما آنست من نار,وأجيل البصر حولي فلا أرى غير الطرق, مددت يدي إلى جيبي وأخرجت قطعة نقد كنت قد أحضرتها معي من جيب أمي,فرميتها ومشيت في الطريق الذي اختراته لي.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات