قد تبدو بعض الوظائف بسيطة لكن الإنجاز لايتم بدونها فلا تصح ممارسة التمييز الطبقي ضدها.

يسود الاعتقاد، في بعض المنظمات، بأن من لهم علاقة بهدفها الرئيس هم الفئة الأهم فيها، وأن من يقدمون الخدمات فئة أدنى، قد لاتكون الفجوة كبيرة بين الفئتين في المزايا والمخصصات، ولكنها تظهر بوضوح في ترتيب الأولويات وتقدير المنجزات. فعلى سبيل المثال، يعد المهندسون والمديرون ومساعدوهم التنفيذيون الفئة الأهم في منظمات تطوير المنتجات، فيحظى المهندسون بفرص الترقي الوظيفي والوصول إلى مواقع التأثير، أما غيرهم فقد لا يحظون بنفس تلك الفرص، بل ويكونون أول من يتعرض لمحاولات تقليص المزايا والأعداد عندما تقسو الظروف وتجف الموارد.


إن تقسيم المنظمة إلى فئات، محظية وأخرى منسية، تصرف لاتحمد عواقبه، وليس هناك مثال أوضح على ذلك من شركة ديجيتال Digital Equipment Corporation المشهورة ب DEC التي قامت بهندسة ثقافتها التنظيمية بشكل طبقي وتأثرت جراء ذلك أيما تأثر. كانت DEC باكورة الشركات التقنية التي دعمها رأس المال المغامر للشركة الأمريكية للبحث والتطوير في الخمسينيات (ARDC).نمت الشركة بشكل متسارع واكتسحت ابتكاراتها التقنية الثورية مجال الحوسبة لتصبح ثاني شركة بعد العملاقة IBM.


في دراسة إثنوغرافية بعنوان "Engineering Culture

يوضح المؤلف قيديون كوندا كيف قسمت الشركة، التي كانت تقدس التميز التقني، الموظفين إلى طبقتين وميزت بينهما بوضوح شديد. فكانت لدى فئة المهندسين ومديري تطوير المنتجات الحرية والمرونة التامة في العمل والمشاركة بالرأي التقني وحضور الاجتماعات المهمة، بينما كانت فئة العاملين في أقسام الدعم لاتتمتع بمثل هذه الفرص. بل وصلت التفرقة بين الفئتين إلى هدايا مواسم الأعياد، فكانت الفئة المتميزة تحظى بها دون غيرها.

أخذت ثقافة صراع الأفكار التقنية التي ساعدت المنظمة على ابتكار منتجات ثورية، منحًى مختلفًا رسّخ روح العناد المتصلب للأفكار والمواقف و التحزب للمنتجات والصراع على تسيد عروشها،


أدى ذلك إلى خلق ثقافتين في نفس المنظمة إحداهما ظاهرة والأخرى خفية، فالظاهرة منها تمثل جوًا أسريًا هندسه مؤسسها ووالدها المهيمن كين أولسن، حرص فيه على تعزيز الشفافية وصراع الآراء للوصول إلى أفضلها وما يتولد عن ذلك من فوضى منضبطة كانت تفاخر بها المنظمة وتعدها من خصائصها المميزة، انحصرت تلك الثقافة في المهندسين ومديري المنتجات أصحاب التميز التقني. أما الثقافة الخفية، فكانت على النقيض من الأولى وتشمل الفئة الأخرى من العاملين في المصانع والسكرتارية ومهندسي الخدمات المساندة الذين لايملكون حق المشاركة أو المطالبة خوفًا من الاستغناء اللحظي عنهم لاعتقاد الإدارة بأن استبدالهم سهل, لايؤثر على الأداء بل يقلص النفقات، فكانوا يعدون الأيام و يتحينون الفرص عندما تشغر وظيفة تشكل لهم جسرًا للعبور إلى ضفة الفئة المحظية.



مع مرور الزمن ونمو المنظمة وتعقد علاقاتها، أخذت ثقافة صراع الأفكار التقنية التي ساعدت المنظمة على ابتكار منتجات ثورية، منحًى مختلفًا رسّخ روح العناد المتصلب للأفكار والمواقف و التحزب للمنتجات والصراع على تسيد عروشها، فأصبحت الثقافة المهيمنة عقبة كأداء للابتكار وتصحيح المسار في عالم الحوسبة المتسارع التغيير. وفي المقابل ساد الصمت وتجذرت أعراض الانسحاب في الفئة الأخرى، وزاد على ذلك ظهور ثقافات فرعية تتمحور حول المجالات المهنية بين فئات المهندسين والفنيين والإداريين والعمال، فأصبح التدهور البطئ في الشركة غائبًا عن القياديين وملحوظًا للمتخندقين، دون التدخل لإنقاذها. تسارع التضعضع مع ظهور المنافسين الذين زعزعوا عرشها التقني، فانهارت بعد ثلاثين عامًا من تأسيسها وبيعت لشركة كومباك، أحد منافسيها، في قصة يسردها ويحللها أستاذ سلوك المنظمات إدقار شاين في كتابه DEC is Dead, Long Live DEC وربما يكون للحديث بقية حوله!


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رأفت محمود زيني

تدوينات ذات صلة