الطائر الحبيس داخل القفص يتأقلم ويتواءم مع كونه حبيسًا فاقدًا للحرية. لكن تمر عليه أوقاتًا يضيق فيها من الأسر، يخنقه.

وُلِدتُ وحولى ما يسمى برقع الجنين "caul". وهو غشاء يغلّف المولود حديثًا فيبدو كالهدية الملفوفة بالسلوفان, ويتم إزالته بسهولة من قِبَل القائمين بعملية الولادة، إنه حالة نادرة ونسبة حدوثه حوالى 1: 80,000 لكل مولود. كانوا يقولون أن الطفل الذى يولد هكذا ينعم بالحظ وطول العمر. لكنه فى الواقع كان هو أول حاجز بينى وبين الآخرين من حولى.

كبرتُ ووجدت حواجز ما بينى وبين الناس. ربما كنت أنا أقيمها، أو ربما ذلك الغشاء الذى وُلِدت به كان قد تمزق ميكانيكيًا لكنه لم يتمزق معنويًا!

كنت أرى البعض منفتحًا فى تعاملاته مع الحياة والآخرين بينما أعانى الانكماش حول ذاتى فكنت اندهش من طريقة تعاملهم فى الحياة ،وأتمنى: آه لو كنت مثلهم. كانوا يقولون ما يشعرون به أو يريدونه ببساطة وتلقائية هكذا ، وأنا لسان حالى: كيف يفعلونها؟! كنت أعانى دائمًا من كيفية التعبير عن ذاتى للآخرين بل وكنت أنكر مشاعرى أمامهم. إنه أحد الحواجز. كانت دواخلى هى قبر مشاعرى وكان فمى هو الحجر الذى يغطى هذا القبر.

واصلت إقامة حواجزى بنفسى، أو لعل ذلك البرقع الذى وُلِدت به قد واصل تجليه فى حياتى إلى أن وصلت فى دراستى للسنة الثالثة بكلية الطب ودرست علم الميكروبات. حينها وجدت عدوّى الذى أوجه ضده أسلحتى ويستنفذ كل طاقتى وذهنى ووقتى وهمّى فى فوبيا ووسوسة مشئومة لأدخل حصونى وقلاعى فى مواجهته (ربما كما تفعل أميريكا دومًا للبحث عن عدو تحذَر منه وتحاربه). وهكذا أصبحت أبعد عن كل ما يأتى بشبح العدوى من الميكروبات والجراثيم والطفيليات إلى حد الوسوسة، أقيم الحواجز المتعددة حتى أصبحت أنا نفسى أقيم داخل سجنى الذى بنيته حولى ليحول بينى وبين الحياة الطليقة.

مر وقت طويل لأكتشف أنه يمكننى تمزيق كل هذه الحواجز كما تم تمزيق برقع الجنين من حولى منذ زمن بعيد. ربما يكون ذلك صعبًا لكنه غير مستحيل. ربما استغرق مسيرة الحياة كلها بالعمل المتواصل على الذات حتى أحصل على البراح الذى تستطيع فيه روحى أن تتمدد خارج حيزها الضيق وخارج تلك الحواجز البغيضة مثلما يتمدد جسد الوليد بأريحية بعد تمزيق ذلك الغشاء الذى يغلفه.

فقط أتساءل هل المظهر مُنبِئٌ عن الجوهر منذ اللحظات الأولى للحياة على اعتبار أن الإنسان وحدةٌ واحدة وبصمته هى ذاتها فى كلًا من جسده ونفسه؟


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات جوانا منير شكرى

تدوينات ذات صلة