هل كل ما يقع حولك هو حقيقة؟ وهل هناك حقيقة غير موجودة على أرض الواقع؟
الواقع هو ما أراه، أسمعه، ألمسه، وأعيش فيه. هو مدرك وظاهر، أما الحقيقة فقد تكون خفية. والحقيقة الخفية ترفرف حولنا منتظرة مَنْ يستشعر وجودها. تعزف ألحانها الهادئة وسط صخب الحياة منتظرة مَنْ ينصت إليها فى صمته وتأمله بتجرد وإخلاص. إخلاص المتأمل، أو إخلاص العابد الناسك، أو إخلاص العالِم.
الواقع يقول أن الوردة التى فى يدك بيضاء (مثلًا). لكن الحقيقة تقول أن سطح تلك الوردة يعكس كل أطياف الضوء المرئى فتجعلك تراها بيضاء.
الواقع يقول أن الفضاء مظلم لكن الحقيقة تقول أنه مليء بموجات الطيف المرئى التى لا تظهر إلا فى وجود أجسام فضائية تعكسها.
ما تظنه بحواسك شىء هو "واقعك"، أما "حقيقته" فهى غير مرتبطة بقدراتك على الإدراك.
أنظر إلى أم تحتضن طفلها. الواقع يقول أن حبهما جذب جسديهما ليتلاصقا. لكن الحقيقة أن بينهما مسافة بينية تُرى بالميكروسكوب الإليكتروني نشأت من تنافر جسديهما. نعم، المشاعر تجذبهما، لكن الإليكترونات (السالبة) التى تدور حول النواة فى ذرات جسديهما المتقابلة تتنافر. فالحقيقة العلمية تقول أن المادة لا تتلامس مع أى مادة أخرى إلا فى حالتى التفاعلات الكيميائية والنشاط الإشعاعي. أما ما يشعر به الطفل من انضغاط فى حضن أمه هو ليس تلامس حقيقى على المستوى الفيزيائي بل تحكمه قوى التنافر بين ذرات جسديهما الخارجية.
دعك من الأم وطفلها -واعذرني إن كنت قد أدخلت برودة العلم وسط دفء تلك المشاعر- وانظر الآن إلى كفك. هى فى الواقع جسم مصمت. لكن الحقيقة تقول أنها كالغربال. عفوا، دعنى أقولها بلغة علمية؛ الحقيقة العلمية أن كفك يحوى من الفراغ أكثر مما يحوى من المادة. فإن أى جسم مكون من جزيئات تترابط فيما بينها بقوى ترابط تجذبها نحو بعض (لكن لا تلصقها). تلك الجزيئات تتكون من ذرات هى أنوية تدور حولها إليكترونات بينها مسافات كبيرة نسبيًا من الفراغ.
هيا نتخيل وقوع شجرة ضخمة فى الغابة. الواقع يقول أنَّ وقوعها يحدث صوتًا مفزعًا، ويمكننا أن نتحاجج ونتفلسف فى رواية أخرى للواقع ونقول أنه لا وجود لأى صوت لو لم يوجد هناك أذن (لإنسان أو حيوان) تسمع صوت الارتطام. أما الحقيقة العلمية فتقول أنَّ سقوطها وارتطامها بالأرض يسبب اهتزازًا معينًا فيما حولها ما نسميه موجات. هذه الموجات بعضها نطلق عليه "موجات صوتية". تلك الموجات يمكن رصدها بأجهزة رصد معينة ولا يتم ترجمتها لصوت إلا فى وجود أذن. أما فى حالة عدم وجود الأذن أو أجهزة الرصد تلك فالواقع ينفى وجودها.
وبينما فى الحقيقة يزخم الوجود حولنا بالأشعة الكهرومغناطيسية فإن ما نراه والذى يمثل واقعنا ـ أو على الأقل واقع الإنسان قبل إختراع أجهزة الرصد المختلفةـ هو فقط ما يقع فى نطاق الطيف المرئى للأشعة الكهرومغناطيسية الواسعة النطاق جدًا والتى تشمل أشعة جاما، والأشعة السينية، والأشعة فوق البنفسجية، ثم الضوء المرئى، والأشعة تحت الحمراء، والميكروويف، ثم أشعة الراديو. كما أن ما نسمعه هو فقط ما يقع فى نطاق ضيق لترددات موجات الصوت، فما دون ذلك من ترددات لا نسمعها وهو الموجات تحت الصوتية، كذلك ما فوق ذلك وهو الموجات فوق الصوتية لا نسمعها مطلقًا لكن تشعر بها كائنات أخرى كالوطواط.
إذا الواقع يتأثر بمتغيرات وموجودات معينة وقدراتنا على إدراكها ورصدها ، أما الحقيقة فهى ثابتة.
الواقع يقول أنَّ حياتك تبدأ منذ ولادتك. لكن الحقيقة تقول أن حياتك بدأت قبل ذلك بكثير من خلال تكوين خليتك الأولى؛ الزيجوت. ربما كنت حينها جسدًا بلا روح.
والواقع يقول أنَّ موتك يمثل نهايتك، لكن الحقيقة تقول أنَّه يمثل نهاية جسدك الأرضىّ لتنطلق روحك بينما يتحلل جسدك وتعود مكوناته إلى التراب. حينها تكون روحًا بلا جسد.
ربما يجدر بنا أن نكون حقيقيين وليس واقعيين.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات