نحن نقيم لأنفسنا حدودًا صحيّة، وكذا غير صحيّة. هل حدودنا تحمينا أم تقيدنا؟

شيدت لنفسى بيتًا جميلًا لأسكن وأرتاح فيه، فوجدتنى لا أبرحه إلا فى القليل.

فتحت فى جداره نافذة واسعة، لكنى زودتها بأربعة مغاليق محكمة؛ زجاج لصد الهواء والتراب والصوت، وضلف خشب -أو ستائر غامقة- لحجب الضوء، وسلك شبكىّ لصد الحشرات، وستارة للزينة وحجب الرؤية. وجدتنى لا أفتح نافذتى معظم أوقاتى فهى مغلقة بالأربعة مغاليق وأحيانًا بثلاثٍ منها.

هكذا تصير حياة الإنسان حين يركن لمنطقة راحته..

يُحاط الإنسان منذ بداية تكوينه بالكيس الجنينى داخل جدران رحم أمه، ويُحاط بعد انتهاء عمره بجدران نعشه ثم بحوائط قبره، وسنين عمره تمتد ما بين هذه الحدود وتلك.

يبدأ الإنسان طفلَا طليقًا يسعى نحو الحرية بشغف زائد، فيحاول القبض بيده على أبعد شىء يمكنه أن يراه، ويحاول أن يصل بجسده لأبعد مكان تبصره عيناه. إنها الحرية البريئة الساذجة غير المحسوبة وغير المصدومة بتجارب سابقة.

يكبر الطفل ومع زجر الأم وتحذيرات الأب بالإضافة للخبرات المؤلمة تبدأ حريته فى التناقص شيئًا فشيئًا وتبدأ الحدود فى الظهور وتتباين من شخص لآخر حسب طبيعته وحسب درجة تحفُّظه أو تحرُّره. وبعدما كان الطفل حرًا طليقًا ويكره غلق النوافذ والأبواب، يتشكل بالتدريج بطبيعة الكبار ليجد نفسه بعدما يكبر يغلق نوافذه خوفًا من لصوص النظر، ويغلق باب منزله خوفًا من لصوص المال، ويرسم/ ترسم حدود مياهه/ ها الإقليمية حول الجسم خوفًا من لصوص الأجساد. وبعدما كان كل مكان فى عالمه يمكن أن يرتاح فيه أصبح يهيئ لنفسه "منطقة راحة" "comfort zone"، وكلما كبر سنه صغُرت هذه المنطقة وانكمشت لأضيق حد. وبعدما كانت منطقة راحته تتمثل فى منازل عائلته، تنحصر فى منزله، وبعدها تنحصر أكثر فى حجرته، ثم كرسيه الخاص أمام قنواته الفضائية المفضلة أو أمام مكتبه، ثم تنحصر فى سريره. ولا يفطن أنه بهذا يزيد تيبُّس مفاصله وعضلاته وكذا تيبُّس أفكاره وتطلعاته بل تيبُّس روحه. وبلا وعى يجد أنه يسيِّج حول نفسه بسياج يضيِّقه تدريجيًا حتى يكاد يختنق. وفى النهاية يضيق السياج رغمًا عنه ليلاصق جسده تمامًا فى صورة نعشه.

فى الواقع فإن منطقة الراحة تعنى مكانك الخاص وكذلك تعنى عاداتك التى لا ترتاح لسواها. لذا جدير بنا أن نبادر بالخروج من منطقة الراحة بإصرار ومثابرة ومجاهدة النفس قبل استحكام الحلقات حولنا لخنقنا.

إن التطوير الذاتى لا يحدث إلا إذا خرجت من منطقة راحتك لأن بقاءك فيها لا يؤدى إلا إلى الجمود والاحتراق (مثلما ذكر "روبن شارما" فى كتابه "بيان البطل اليومى").

أليس من الأفضل لنا أن ننطلق بشغف الحرية الذى لروح الطفل ونهدم جدران سجوننا قبل أن تنطبق علينا؟!


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات جوانا منير شكرى

تدوينات ذات صلة