بدأ «الحدوتة» الإنسانية بأن الأرض مُهدت له؛ لكي يُعمر فيها، ولكن لكي يستمر، ويُحسن في العمل، لابد من دافع لكي يدفعه للاستمرار والإحسان في العمل.

وحدوتة اليوم هو إنسان ملأ الأرض بعمله وبعرقه وجهده الذي جعلهما عبادته لله ـ عز وجل ـ ليس مجرد صومعة عابد، بل جعل العالم صومعة عمل لعبادة الله ـ عز وجل ـ منذ يوم ميلاده إلى يوم وفاته إلى الآن.

تلك الشخصية التي تظن وأنت تقرأ سيرتها أنك أمام شخصية تشبه الصفحة البيضاء لا يشوبها شائبة، كلماتها على الورقة بيضاء؛ من شدة إخلاصها، نار الإخلاص، فلا يتبقى لنفسك شيء فترتقي الروح حاملة معها كل أعمالك بيضاءَ نقية، و ابتغاؤها لوجه الله لدرجة تجعلك تتساءل: أين نصيبك من الدنيا؟ فيجيبك عمله: في جنة الله.

تلك النفس التي تشبه الشمعة في إنارتها لوحدها في ظل ظلام دامس، الكل معجب به، ويعيشون فيه ويتعايشون معه، منتصب القامة كعمود، تلك الشمعة التي ينتصب طول عمودها لأعلى، كأنها تملك الظلام من تلابيبه، ليصبح الظلام مجرد سحابة سوداء فوق الشمعة التي يصل دفئها للكل، دون تفرقة؛ لأنه الآن من يمنح ويعطي، والعطاء لا بد أن يصل للكل.

تلك الشخصية التي لا تظهر، إلا إذا عم الباطل وانتشر الذل وخضع الناس، فيأتي به الله ليكون سبباً في قلب الموازين، فهو خادم مشغول مقهور بالحق, شخصية في حقيقتها فعل وقول، أو لتقل: قول وفعل، أو لتقل: قول الفعل أو فعل القول. المهم أنه يمتلك القول والفعل، وهما قضيتا الحقيقة، فالحقيقة تحتاج لرجلين: رجل ينطق بالحقيقة، ورجل يفهم الحقيقة، ويعمل بمقتضاها، وقد وجد الرجل في ذلك الرجل.

ذلك الرجل هو «عُمر بن الخطاب» فيلسوف الحق، ولكِن …

لماذا عُمَر بن الخَطاب؟ (2)

لأن رسولنا الكريم أخبرنا عنه، وأنبأنا عنه، وأراده للإسلام قبل أن يُريد عمر الإسلام.

فرسولنا الكريم قال عنه: «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب».

وقال أيضا: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، عمر بن الخطاب معي حيث أحب، وأنا معه حيث يحب، والحق بعدي مع عمر بن الخطاب حيث كان».

وقال أيضا: «أُريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يفري فريه، حتى روي الناس وضربوا بطعن».

لأن عُمر عندما يعرف أن الأمر فيه خير وحق يدافع عنه، يتعصب له، يهب له كل طاقاته، كل وقته، كل حياته، ويصير كالأكسجين بالنسبة، له يموت إذا لم ينصر حقه وهدفه.

كان يتعصب للحق، لا تعصب الأعمى ولا المريض، ولكن تعصب المؤمن الذي يغار على الحق وأهله.

بُوصلة عقل عُمر (3):

رجل عرف أن لكل شيء حقيقة، ولكل حقيقة «لُب»

عرف أن اللُب هو أصل كل شيء.

فاللُب هو الشيء المميز والجوهر اللطيف للأمر، للإنسان، لكل شيء.

لُب الشئ غايته.

ولا يظهر الشيء إذا كان ليس له لُب.

والأمثلة على ذلك:

لُب الحياة

فهو عرف أن لُب الحياة هو الإيمان، نعم الإيمان بالشيء، والانتماء له، والدفاع عنه.

فهذا عُمر في الجاهلية، كان غليظا شديدا لا يترك تعذيب العبيد، إلا ملالة من شدة التعب، وكان يفعل هذا معتقدا أنه على الحق، والحق لابد أن يكون شديدا.

وهذا عمر بن الخطاب يوم أن أسلم لم تتغير بوصلة عقله، ولكن تغيرت بوصله قلبه.

ومن هنا قال عمر بن الخطاب للرسول: ألسنا على الحق؟

قال الرسول: نعم.

قال عمر: أليسوا على الباطل؟ قال: نعم.

فقال عمر بن الخطاب: ففيم الاختفاء؟ قال رسول الله: فما ترى يا عمر؟

قال عمر: نخرج فنطوف بالكعبة.

وخرج وطاف المسلمون لأول مرة بالكعبة يوم إسلام عمر.

أي عزة تلك التي تأتي من رحم العقل بالإيمان بالشيء، بالدفاع عنه بكل حمية وقوة!

لُب العلو في المكانة هو التواضع لله

وعرف أن لُب العلو في المكانة هو التواضع لله .

علم أن العلو في المكانة لا يصاحبه إعجاب بالنفس، إلا لو كان مصاحبا له إعوجاج في النفس، فيحمي نفسه بنفسه، بتذكيرها بفضل الله عليه، فهو كما يمنح ويعطي، يمنع أيضا.

فعرف أن تقديره لذاته شيء، وإعجابه بنفسه شيء آخر، وهذا يظهر في موقفه مع ابنه الذي يذكر مقامه: أين هو؟ «بأنه صار ليس فوقه أحد» وبين إعجابه بنفسه التي تُنكر فضل الله، فذهب ليروضها ويهذبها. وهذا هو الموقف :

فمر يوما ببعض الشعاب على مقربة من مكة مع ابنه، فقال له: «لقد رأيتني في هذه الشعاب أرعى إبل الخطاب، وكان غليظا يتعبني، ثم أصبحت وليس فوقي أحد».

وضايقت هذه الكلمة ابنه، فقال له: ما حملك على ماقلت يا أمير المؤمنين؟

قال: إن أباك أعجبته نفسه فأحب أن يضعها.

وعرف أن الترفيه بالغناء ليس حراما:

عرف أن أصل أي تحريم هو الإلهاء عن الحق، فالخمر مُنعت؛ لأنها تصيب الإنسان بنسيان الحق، وهكذا الغناء حُرم في بعض مواضعه: إما لأنه يُنفر القلوب بذكر محاسن امرأة، أو يُذكر في وقت ذكر وصلاة، وهذا لا يستقيم وجوده.

وهذا يظهر في موقفه مع صحابة رسول الله:

أن عمر وعثمان وابن عباس خرجوا في ركب، وكان معهم رباح بن الفهري الذي كان يجيد الغناء فسألوه ذات مرة أن يغني، فقال مستنكرا: مع عمر! قالوا: «احدُ! فإن نهاك فانته»، فحدا أمام عمر، حتى كان السحر، قال له عمر: «كُف! فإن هذه ساعة ذكر». ثم تكررت في الليالي التالية، وكان ينهاه فقط عن ساعة الذكر أو عندما تنفر القلوب من الغناء.

وجيء له برجل يغني في الحج، وقيل له: إن هذا يغني محرما.

فقال دعوه فإن الغناء زاد الراكب.

لُب «الصلاة»:

هي الصلاة نفسها التي يتحدث فيها إلى الله ليخبره بما هو أفضل له

فكان يعد ويضع الخطط ويختار أمراء الجيش في الحرب وهو في الصلاة

لب الرجولة هي الغيرة:

الغيرة هنا ليست من الشيء، فهذا بالتأكيد مرض قلبي، وليس على الشيء، ولكن بالتأكيد لأجل الشيء.

فإذا غار رجل على امرأته فمن الممكن أن تظن أن غيرته من أجل نفسه، من أجل صورته أمام الآخرين لا من أجل امرأته،ولكن إذا سمعت أن عُمر غار على امرأة عادية، ليست بامرأته! فسيكون أول شيء؛ لأنها خالفت حدا من حدود الله، فأبى لها العذاب والعقاب في الدنيا والآخرة، وليس لأي شيء آخر.

والرسول يقول: «إن الله غيور يحب الغيور وإن عمر غيور».

وقال له الرسول: «بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ جانب قصر، فقلت: «لمن هذا القصر؟» فقالوا: لعمر، «فذكرت غيرته فوليت مدبراً» فقال له: «أعليك أغار يا رسول الله!»

وهكذا سيرته كلها عرف في كل شيء، أين لب هذا الشيء؛ ليعطيه حقه من الحق، ولا يطغى، ولا يستسهل الأمر فتضيع الحقوق.

وما سبق كان عرضا مُبسطا لبوصلة عقل عُمر في التفكير من أجل الأمة، لا من أجله، فهو خليفة المسلمين، ولكن ليس بأغناهم، ولا بأكثرهم مالا وولدا، فهو يرضى فقط بالحق، ولأجل الحق خُلق عُمر.

هكذا عُمر! ونحن؟!

وفي النهاية: إذا سألوك عن العقل فأرشدهم إلى بُوصلة عُمر!

الكَنز

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات الكَنز

تدوينات ذات صلة