لكلٍّ منا بوصلته الخاصة لتوجيهه في طرق حياته، وأنا بوصلتي ورقة بيضاء!


ها أنا مجدَّدًا برفقةِ ورقةٍ بيضاء، صديقة وِحدتي التي ابتعدتُ عنها بحكم عدم استقراري الداخلي، تلك الورقة البيضاء التي كانت بوصلتي التي توجِّهني كل مرةٍ أصطدِمُ فيها مع الواقع، مع الحياة، مع كل ما يحيط بي، ومع نفسي!

نفسي التي أضَعتُها منذ أمَدٍ لا أعرفُ مِقداره، ولا أعرف السبب الحقيقي الذي أوصلني لِضياعها، لكنني أضعتُها!

أضعتُ البوصلة التي كانت تُصارِحني مع ذاتي وتساعدني على فهمها أكثر.

الفترة التي ابتعدتُ فيها عن ورقتي البيضاء كانت قاسية جدًّا، ومؤلمة جدًّا!

صحيحٌ أني لم أتخلَّى يومًا عن الكتابة بشكلها المألوف لدى جميع من يعرفني، لكني فِعلِيًّا تخلَّيتُ عن مُواجهة البياضِ والصفاء..

ربما كان خوفًا من أن تنعكِس حقيقتي بكامل جوانبها الإيجابيةِ والسلبية، على ذاك الصفاء!

حقيقتي بِذاتها المجردةِ من أي فِلتَرٍ أو رُتوشٍ تجميلية، وعندما أقول حقيقتي فأنا أقصدها بجميع جوانبها الجيدة والسيئة، المحسوسة والملموسة، الظاهِرةِ والباطِنة، حقيقتي أنا!

المساحة البيضاء تمنحني فرصة المواجهة مع "أنايَ" بِحُرِّيةٍ مُطلَقة، بالغضب، بالسخط، بالتشاؤم، بالنظرة الدونية لنفسي، بالسوداوِيَّة المُفرِطة، بكُرهِ حقيقتي وواقعي!

جميعنا بشر وجميعنا يحمل بداخله نوعًا ما، وبدون إرادةٍ منه تلك المشاعر جميعها أو بعضها، وجميعها تحتاج لِمساحةٍ حرةٍ حتى تخرج بِحقيقتِها كما هي بِضجيجها وفوضوِيَّتِها، ومن ثم لِبوصلةٍ توجِّهها بعد التفريغ حيث تهدأ وتستكين وتبدأ رحلة وعيِها.

مساحتي كانت ورقة بيضاء وأنا فقط، لا ثالث لنا إلاَّ القلم!

كنتُ أنقُلُ للورقةِ أنني فشلتُ مراتٍ عِدة، وبأن لي طِباعًا لاذِعة، وبأنَّ أعصابي مُفرِطة بِردَّاتِ الفعل اللاَّمُتوقعة والتي تصدرُ مني نتيجةً لِما يحدث معي فيُغضِبني، فلا أملكُ وسيلة لإيقافها أو أسلوب يُمكِّنني من السيطرة عليه وتهدئته، يندفع الغضب مني كبركانٍ سريعٍ مشتعِلٍ وحارِق!

لِأجد نفسي بعدها في دوامةٍ من الندم وتأنيبٍ قاسٍ يجعل التوتر بلا راحةٍ كَعدَّادٍ يركضُ سريعًا فيسحق كلَّ ما يصادفه في طريقه.

أبحث دومًا عن الحلولِ وأحاوِلُ لكني لم أجد شيئًا إلَّا مواجهةَ الورق الأبيض والإعتراف أمامه وله، فكنتُ كلما وقعت عيني على ورقةٍ تلهَّفَ قلبي بشدَّة!

لكنَّ شيئًا ما داخلي يهرب، يحيدُ عنها، يبتعد تمامًا وأغوص في تفاصيل الحياة التي لم تكن يومًا تُناسبني مُثقَلَة بما داخلي، حياة مُمِلة رتيبة لا هدف منها، لأنني طبعا أراها بهذا الشكل!

الإحباط من الواقع الذي فُرِضَ عليَّ هو ما كان يُريني ذلك، على الرغم من أنَّ هناك شيءٌ بداخلي كضوءٍ صغير، شعلة خافتة وصوتٌ هامِسٌ يحاول أن يدلني إليها، بيد أن صوت الإحباط والرسائل التي أتلقَّاها كل يوم وأسمح لها بالإستقرار داخلي وإعلاءِ راية الاستسلام أكثر فأكثر، كانت أكبر تأثيرًا!

والمنطِق الذي أجده حولي حينما أحاول التفكير بشيءٍ من الجدِّية، جميعها كان يدعم الإحباط!

المحاولات الفاشلة، الإعتراف الداخلي والواضح أن لا جدوى من التمسك بفكرةٍ أعرف جيدًا أنها قد لا تكون، واحتمالٌ صغيرٌ جدًّا أن تكون لكنها بحاجةٍ لمعجزةٍ إلهية حتى تتحقق!

الخوف من مُشاهدة صورتي المُنكسِرة والمُلتوية والباهتة على مرآة!

أخافُ المرايا لأنها تُشعِرُني بالضعف، بل وتُريني ذلك حقيقةً بائسةً كما اعتاد الجميع رؤيتها، وكما كرهتُ رؤيتهم تلك لِحقيقتي.

رغبتي بالوصول بمشاعر مترددة وخائفة، رغم يقيني أنَّ أيّ طريقٍ يحتاج شجاعةً مجردةً من أيَّ لمحةِ خوف!

لكني كنتُ خائفةً دومًا، أسيرُ بخطواتٍ مترددة، غير مُتَّزنة، مُهتزَّة تتمنى لو أنها تستطيعُ الرجوع لِلوراء ولكنها تجدنفسها في مأزِق، عليها إكمال المسير وإلا فقدَت آخر خيطٍ من ثقتها بنفسِها، وإيمانًا بنفسِها.

ذلك المأزِق هو الذي أجبرَني على إتمام سَيرِي بِخطواتي المترددة، ذلك المأزق هو ما يراه الجميع إبداعًا يستحق الاحتفاء!

الغريب أني لم أجد في احتِفائهم إرضاءً لي، لم أشعر بِطاقَةِ العبور نحو التالي من سلسلة النجاحات التي من الطبيعي أن يمشي في طريقها أيُّ مُبدِع.

لم أشعر بفرحة النجاح ونشوته يومًا، أعترف بذلك ولكني لم أكن أعرف السبب!

حالة من الفوضى والصراع والتوتر عشتُها فترة التسع سنوات الماضية تقريبًا، حالة من الرفض والاستسلام التام والتماشي الغير منطقي مع نمط حياة أعلم تمامًا أنه لن يناسبني ولا يلائم شخصيتي، حالة من السخط من محاولات فاشِلة وأخرى كادت أن تصل درجة النجاح ولم تصل!

حالة من الشعور بعدم الاستِحقاقية لأي شيء أقوم به أو أحصل عليه أو حتى أطمح بالوصول إليه، حالة من العاطفة الغير مفهومة التي أودَت بي إلى طُرُقٍ آملُ أن لا أعود إليها أبدًا.

الغريب بكلِّ شيء هو أني كنتُ أعلم أنَّ تلك الطرقَ ليست لي، لا تُناسبني ولن تناسبني يومًا، لكنَّ اندِفاعي "المجنون" لِعيشِ تجارب جديدة كان أقوى!

وطبعا، خسرتُ نهاية الطُّرق وعُدتُ بفكرةٍ كانت حجر الأساس لكل شيءٍ إيجابيٍّ أواجِهه، ولكلِّ شيءٍ جميلٍ أصادفه وأتمنى الحصول عليه، وأعي تمامًا أنَّ هذا ما يُناسبُني!

وأنهيتُ صِراعي الطويل مع فكرة "أنا لا أستحِق"!

عدم الاستحقاق شعورٌ فظيع، عايَشتُه طِوال تلك السنين.

" أنا لا أستحق الحب، لا أستحق النجاح، لا أستحق الظهور، لا أستحق أن يعرفني الناس على حقيقتي، وإلى سلسلة طويلة من ((لا أستحق))"

ابتعدتُ لأني لا أستحق، انزَوَيت، تقوقعت، حتى أني احتفظتُ بتجاربي وأفكاري لأنها لا تستحق!

حتى تجاربي لم تكن تستحق أن أبوح بها لأحد، ونجاحاتي الصغيرة لا تستحق الاحتفاء!!

حتى اعترافي بأني أستحق كل ذلك، لم يكن يستحق أن يخرج مني!

ابتعادي الطويل عن الورقة البيضاء حرمني نعمة الاعتراف بأني أستحقُّ كل ذلك وبجدارة!

تجاربي على بساطتها تستحق التقدير بإيجايباتها ومساوئها، ونجاحاتي تستحق الاحتفاء والتقدير.

أستحق الحب والاحتواء، أستحق تكوين كيانٍ خاصٍّ لحياتي.

من حقي أن أتمسك بما أراه مناسبًا لي، وبمن أشعر أنَّ وجوده ضرورةً في حياتي، وأن أبتعد عمَّن أرى وبعد محاولاتٍ فاشلة للتفاهم بأن وجوده يهزُّ قاعدة وجودي!

من حقي أن يكون لي بوصلة تُوجِّهني نحو الطريق الصحيح لأكتشف ذاتي بشكل عميقٍ ومثيرٍ للدهشة، ولِأتعرَّف عليها من جديدٍ وكأنها شخصٌ جديد دخل حياتي وبدأ يُغيِّرُ أشياءَ فيها، يُعيدُ ترتيب أثاثِها، وتوضيب المكان وتنظيفه وفتح نوافذ النور نحو حياةٍ أكثر هدوءًا، أكثر إنجازًا، أكثر تقديرًا وقبولًا وحبًّا، وأكثر استِحقاقًا لكل ما هو جميل ومُبهِج.


#مياس_وليد_عرفه


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات مياس وليد_حكاية شتاء

تدوينات ذات صلة