قصة سيدنا يوسف تعلمنا يوميا الكثير لذلك سيميت بأحسن القصص..
قال النبي (تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه). *حديث شريف، رواه البخاري.
معنى الحديث في أن الناس معادن أي نفوس مختلفة، فالمعدن منه النفيس ومنه الرخيص، وكذلك الناس منهم النفيس ومنهم الخسيس ومنهم الجاحد ومنهم الحاقد ومنهم الحاسد ومنهم الطيب ومنهم الساذج، يقول الرافعي إن وجه الشبه في أن اختلاف الناس في الغرائز والطبائع كاختلاف المعادن في الجواهر، وأن رسوخ الاختلاف في النفوس كرسوخ عروق المعادن فيها، وأن المعادن كما أن منه ما لا تتغير صفته!
في الأثر حكي أن أحد الرجال كان من أجوَد العرب في زمانه.
فقالت له امرأته يومًا: ما رأيت قومًا أشدّ لؤمًا من إخوانك وأصحابك!
قال: ولم ذلك؟!
قالت: أراهم إذا اغتنيت لزِمُوك، وإذا افتقرت تركوك!
فقال لها: هذا والله من كرمِ أخلاقِهم. يأتوننا في حال قُدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بواجبهم!
انظُر كيف بمعدنه الأصيل النفيس جاء بهذا المعنى، فجعل قبيح فِعلهم حسنًا وظاهِر غدرهم وفاءً!
ولنا في يوسف قصة لقيمة المعدن النفيس الغالي الذي لا يصدأ رغم الأزمات والمصاعب، حيث كان يوسف وأخوه بنيامين من أم واحدة، وكان يعقوب عليه السلام شديد الحب ليوسف عليه السلام، وكان إخوته يرون من الميل إليه ما لا يرونه مع أنفسهم فقالوا (ونحن عصبة) جماعة وكانوا عشرة، فاغتاظوا لمحبة يعقوب ليوسف وتفضيلهم عليهم هم العشرة (عصبة)، وكان في وجهة نظرهم أنهم هم أنفع لأبيهم من يوسف الوحيد!
وعندما رأى يوسف الرؤيا في المنام وقصها لأبيه يعقوب، نصحه أبوه بألا يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيدًا، لهذه الدرجة الكره تملك منهم، وأبوه تنبه لهذا الكره فحذر ابنه منهم، يكرهونك لأنه مميز ، يكرهونه لمميزاته وحسناته ومواهبه، يكرهونه لرزق الله الذي أعطاه الله له، يكرهونه لمحبة أبيه!
واجتمع إخوته على الخلاص منه فاتفقوا على قتله (اقتلوا يوسف)، ولكن ظهر من بينهم رأي أخف ضررًا وهو (ألقوه في غيابات الجب)، أي عدم قتله وتركه على قارعة الطريق لبيعه وهذا ما يخبرنا القرآن بحدوثه، بأن باعوا يوسف بثمن بخس (قليل) وكانوا فيه من الزاهدين، تخيل معي إخوتك يجتمعون على التخلص منك لسبب واحد وهو قربك من أبيك!
ثم توالت عليه محنة امرأة العزيز حيث برأه القضاء حينها، ولكن اختبر بمحنة السجن (ليسجننه حتى حين)، لأن حينها إذا أفرجوا عنه فسيقول الناس إن امرأة العزيز هي المخطئة وبذلك تهتز صورة الملك، فسجنوه حفظًا لماء وجه الملك رغم براءته!
ما زالت الكراهية مستمرة وما زال تفسيرهم للأشياء خاطئًا وما زالت بصيرتهم لا تفرق بين الأمور.
وتتوالى الأيام وينصف الله يوسف وأصبح عزيز مصر بعد أن غدر به إخوته وتركوه صغيرًا في البئر، ويدخل عليه إخوته واستأذنوا يوسف بالدخول فأذن لهم، وعرف يوسف إخوته رغم أنهم لم يعرفوه، فأحسن ضيافتهم وأكرمهم!
قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، (فأسرها يوسف في نفسه) ولم يبدها لهم، أتعرف ما الذي أسره في نفسه؟ أسر يوسف في نفسه قول (أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون)، أسر يوسف في نفسه هذا الكلام، لأنه إذا تكلم ووصفهم بالكاذبين فسيؤدي هذا إلى أنهم سيعرفون أنه (يوسف أخوهم)، فلا يعرف أحد أن لهم أخًا اسمه يوسف سوى (هم)، وهم لا يعرفون أن من يتكلم معه هو (يوسف) الذي أنجاه الله، وأسر يوسف في نفسه هذا القول لأن معدنه الأصيل منعه عن رد الإساءة رغم ظلمهم المتكرر له، فهم يظنون أن يوسف قد تخلصوا منه ومرت سنوات على ذلك وعلى الرغم من ذلك يشوهون صورة أخيهم يوسف أمام الآخرين، جاءت هذه الإساءة من أقرب الناس إليه وهم (إخوته من أبيه النبي وأمه). يا الله!
هؤلاء الذين يكرهونك لمميزاتك ولحسناتك هم أكثر الناس شرًا، فإن لم يجدوا لك عيبًا يخترعوا لك وينسجوا لك من أوهامهم عيبًا وافتراء ليكون مدخلًا لهم كما فعل إخوة يوسف (فقد سرق)، نسجوا من وحي كذبهم وبهتانهم قضية سرقة ظنًا منهم أنهم سينالون من يوسف حتى بعد التخلص منه لأنهم لم يكونوا يعرفون أن من يخاطبهم يقف أمامهم هو يوسف لذلك أسر يوسف قوله، كرمًا من أخلاقه!
هذا الذي ترى في عينيه وينطق بكلمات ينقبض صدرك حين تسمعها فهو ظالم لك لأنه يضمر كراهية من أجل محاسنك ويتلذذ من عيوبك ليذكرها ويشفق عليك ويعطيك النصائح، فتلك النصائح والشفقة تجعله في قرارة نفسه أعلى منك شأنًا كما يظن، يحب أن يرى فيك السيء ظنًا منه أن ذلك يرفع قدره عليك!
القرآن يخبرنا باقي قصة يوسف عليه السلام، بأنهم لما دخلوا عليه وأكرمهم وحتى الآن لم يعرفوه قالوا عنه (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، لأن وصفهم كان مجرّدًا مِن كل (رواسب) ومِن كل مشاعِر حقد وكراهية تعمي بصيرتهم عن رؤية معدن هذا الشخص، ظنوا أن السوء فيه ولكن السوء كان متأصلًا فيهم!
هكذا يوسف كان معدنه واحدًا لم يتغير رغم ما مر به من أزمات، فالله وصفه بـ(عبادنا المخلصين)، فلم يعترض على قضاء الله وهو يتعرض لكل هذا الظلم، والملك عنددما احتاجه فأغاثه وأغاث الشعب من المجاعة ولم يرفض مد يد العون لهم رغم ما تعرض له من ظلم على يديهم فقالوا له (إنا نراك من المحسنين)، وكذلك إخوة يوسف قالوا له (إنا نراك من المحسنين)، تعامله مع الظلم الذي وقع عليه لم يرد الظلم بالظلم ولكن ذلك لمن يمنع تقديره لنفسه بأن وصف نفسه (بأنه حفيظ عليم) و(أنه خير المنزلين)!
فهذا يوسف برغم أنه مر بأفظع ما يمر به أي إنسان، ظروف وأزمات ليست عادية وليست عابرة، فكان يلاقي الكيد من الرجال والنساء من الأقارب ومن الملوك ولم يؤمن به سوى أبيه الذي أحبه وحزن عليه ولكن ذلك لم يمنعه من الإحسان والتصدق عليهم!
يوسف أسرَّ في نفسه أشياء كثيرة ولم يبد للآخرين، حسبة لله وابتغاء مرضات الله، فإذا أردت أن تتأكد من الذهب فعرضه للهب «الأزمات»!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
صورة ما محلها من الإعراب!بغض النظر على موضوع جميل