يفقد الإنسان الشعور بالمقاومة عندما يتلاشى مصطلح المعنى في عقله.


يفقد الإنسان الشعور بالمقاومة عندما يتلاشى مصطلح المعنى في عقله.

الكلمات هي البداية التي ينطلق منها العقل نحو تعريف الشعور،

يجب أن يكون العقل مبدأياً قد اختبر معنى الكلمة ليستطيع تصورها بشكلها الصحيح أو المتعارف عليه في بيئته

فعندما يصابُ الشخص مثالاً بألمٍ ما، يبدأ بالبحث عن ماهية هذا الشعور وترجمته إلى ردات فعل أو أفعال أخرى محركة

عن طريق استرجاع مخزون من الذاكرة ويمكن اعتباره بأنه شيء نسبي،

تختلف مثلاً النكات باختلاف الثقافات،

قد تسمع شيئاً في ثقافة أخرى تجده مهيناً ولكنه مضحك بالنسبة لهم، على مستوى الفرد وغالبية المجتمع.

من منا لم يشاهد مسلسل FRIENDS

يتميز المسلسل بأصوات وهمية لجمهور يضحك على مواقف كثيرة، يساعد هذا النوع من المؤثرات باللعب على المشاهد بشكل جيّد فربما يضحك بلا سبب حقيقي لموقف يرتبط بثقافته..


انطلق الانترنت في بدايته للوصول إلى معلومات عبر الشبكة العنكبوتية ثم اقتنص أصحاب الأفكار والأموال الفرص وانتشرت مواقع التواصل حتى فترة ليست ببعيدة عندما بدأ العالم يصغر في كبره،

واليوم نحن في مرحلة ثانية أساسها هو تفاعل الآلة مع المستخدم, بينما كانت منذ زمن ليس ببعيد تفاعل المستخدم مع أوامر معينة فقط يلقيها هو,

لعبت الخوارزميات دوراً كبيراً في الانتقال لهذه المرحلة, فنجد أن المستخدم اليوم يتلقى التعليمات منها بدلاً من إعطاءها

ولو كانت بشكل غير مباشر, على سبيل المثال "نظام الاقتراحات"

عندما تشاهد نمطاً معيناً من الفيديوهات على يوتيوب يبدأ باقتراح أخرى مشابهة لك كي تظل مستمراً بالمشاهدة فتزيد مشاهدتك للإعلانات ويكسب هو, وتجد ذلك في مواقع الأفلام كنتفلكس أو حتى تطبيقات الأغاني كسبوتيفاي وغيرهم

قد تكون هذه مرحلة بدائية حتّى في هذا العالم,

تعليم الآلة الآن انتقل لمرحلة أخرى قد لانعلم إلى أي مدى وصلت إليه للقدرة على الاكتشاف والتعلّم

بسبب ضخامة البيانات الموجودة.

فكل مواقع التواصل والتطبيقات والمواقع حديثاً تعتمد على هذه الأنظمة لزيادة أرباحها واستمرارها

هل شاهدت يوماً ما فيديو على فيسبوك مثلاً يحتوي على أفكار عنصرية أو شتائم لمجموعة ما ثم ذهبت لتصفح التعليقات فرأيت الكثير من الناس يشجعون هذه الفكرة ويناصرونها بالصور والكلمات وسرد الأمثلة من واقعهم الخ..

أو على نقيض ذلك، 99% من التعليقات ضد المنشور والهجوم على الفكرة أو صاحبها، كلاهما يحوي تفاعلاً كبيراً..

وهنا أنصح بمشاهدة هذه التجربة لعالم النّفس الأمريكي-البولندي "سولومون آش": https://youtu.be/jgkwT50bot8

يتأثر سلوك الفرد عندما يرى أشخاصاً كثر يقومون بفعل ربما يراه غريباً أول مرة، يخضع تحت ضغط نفسي ثم يستسلم بالمشاركة معهم بل وربما يصبح أكثر حدّة منهم، لكن بلا قاعدة أوأساس.

كل مانفعله اليوم على الهاتف أو الكمبيوتر عن طريق الانترنت مسجّل ومخزن في مكان ما, يتم تحليلها والتعلم منها كيف يمكن الاستفادة منك بأفضل طريقة

لا نستطيع أن نقول أنها استغلال من طرف واحد في بعض الأحيان

فمثلاً يتم جمع سجل البحث الخاص بك كي يتم اقتراح إعلانات تتضمن منتجات جديدة قد تكون مهتماً بشراءها,

فهي تسهل عملية البحث من ناحيتك وتزيد من ربح الموقع.

التعليقات التي تقوم بها,

في الواقع مع كل تفاعل تقوم به على منشور ما.. أنت تخبر الإنترنت عن حالتك المزاجية الآن,

فعندما تتفاعل بالضحك أو الغضب بشكل مستمر فأنت تشجّع الآلة على القيام بأمر ما.

فلنبتعد أكثر قليلاً ونسأل, هل يمكن للآلة تغيير قناعة وأفكار الإنسان؟

الموضوع يبدو غريباً, ولكن لنستبعد الغرابة ونتذكر أننا يمكن أن نتعلّم دروساً من الحيوانات, والنباتات, وشروق الشمس

وإلى آخرها من "الأشياء"

يتسابق الكثيرون اليوم للحصول على التفاعل على منشوراتهم من فيديوهات وصور وكتابات, ولكن من يقرر ذلك؟

الخوارزميات, وكي لا ترى الموضوع معقداً عند ذكر الخوارزميات فهي عبارة عن مجموعة من الأوامر

كلنا نستخدم الخوارزميات في حياتنا اليومية,

من الأوامر البسيطة "إذا عطشت سأشرب الماء" وحتى أكثرها تعقيداً "على أي معيار ستختار تخصصك\شريك حياتك الخ.."

تعتمد في الأساس على تحليل البيانات السابقة واستخراج النتيجة المثالية التي نريدها

إذا قلنا اليوم أن هناك سياسيّاً ما يريد النجاح في انتخابات رئاسية\بلدية\ولاية

وأراد التأثير على قرار الناس للحصول على مزيد من الأصوات

يمكنه الاستعانة بفريق من خبراء التسويق والسوشل ميديا وكتاب المحتوى والفيديو الخ..

وإنشاء قاعدة جماهيرية أولية على المنصات, ثم إطلاق محتوى كثيف يري الناس كم هو معطاء وذكي ويستحق النجاح

الكثيرمن المحتوى والترند يتم إطلاقه أولاً ثم ليصل إلى محبيه ثم إلى عامة الناس,

يقع جزء كبير من المشاهدين بالتأثير الذي تحدثنا عنه سابقاً "سولومون آش"

وإذا لم تستجب الآلة لتظهر المنشورات فقط للناس الذي يكون احتمال تعليقاتهم إيجابية ببساطة يمكنهم حذف التعليقات المسيئة

وإنشاء حسابات وهمية لتبدأ بخلق الرأي العام

يظهر أمامك منشور قد علّق عليه أحد أصدقاءك فيثير فضولك, لتقع أنت أيضاً ضحية

وتعتقد بأنك صاحب القرار في التصويت

وهنا أتحدث عن جزء بسيط من عالم كبير يمكنه التلاعب بالمستخدمين

هنا أنت السلعة.. بل أنت مجموعة من السّلع.. فعلياً يتم بيع شيء يخصك دائماً, الوقت مثلاً؟ الرأي؟

اقترح مشاهدة وثائقي "المعضلة الاجتماعية - TheSocial Dilemma" يتحدث فيه خبراء عملو سابقاً لدى شركات مثل فيسبوك ويوتيوب وتويتر, عن كيفية استغلال بياناتنا الشخصية للسيطرة على جوانب معينة من حياتنا

كل ذلك يتم عن طريق الذكاء الصنعي, والذي تغذيه البيانات, وتستغلها الشركات, المنظمات, الدول

أصبح كل نظام يعتمد التعلم الشخصي للآلة, على مستوى الهاتف والحسابات الشخصية

يتعلم يوتيوب وفيسبوك من المستخدمين كل على حدة,

فمثلاً إذا عوّدت حسابك على فيسبوك أو انستغرام أن تظل مستمراً في مشاهدة فيديوهات لكرة القدم سيقوم غالباً باقتراح فيديوهات من نفس النوع

وربما يقترح أنماط أخرى فجأة ليقوم باختبارك والتعلم من ردات فعلك عليها

جرب الآن أن تدخل وتشاهد فيديوهات لم تشاهدها "مسلسلات مثلاً" من قبل ستجد الخوارزمية تقترح لك فيديوهات أخرى مشابهة ببطئ وليس فوراً!

أو أن تتفاعل على صفحات بمحتوى معين ستجد الاقتراحات تتوافد عليك من كل مكان

أحياناً يرسل فيسبوك إشعاراً تافهاً "قام شخص ما بالتعليق على منشور شخص آخر"

قد تقول لنفسك " وأنا مالي!!" ولكنها طريقة لجذب الانتباه لأنك لم تستعمله منذ فترة ولم تتفاعل مؤخراً لذلك يطلب منك أن تدخل بطريقة غير مباشرة لترى ماذا يحدث ويتعلم منك

تتسابق المنصات اليوم على النجاح بمقاطع الفيديوهات القصيرة, نجح "تيكتوك" في ذلك واستخدم نظام الموازنة بين الصوت والحركة في الفيديو, بدأ الناس باستخدامه بشكل جنوني, تصرفات غريبة يقوم بها مئات الآلاف من المستخدمين لتحقيق أكبر عدد من المشاهدات, لا تكمن المشكلة في ذلك بل هي في "القيمة"

ماهي القيمة التي تكتسبها عندما تشاهد شخصاً ما يرقص بطريقة متزنة مع نغمات الأغنية في الخلفية؟

الإرضاء السريع والإشباع الفوري,

يسبب ذلك على المدى الطويل وخصوصاً للأطفال صعوبة في التركيز على المهام الطويلة,

إذ يبدأون بطلب المزيد ولكن بسرعة,

نفس الأمر ينطبق على انستغرام

ولكن هذه المرة "الإنجاز السريع", هل رأيت أحداً شارك فشله في شيء ما على انستغرام؟!

أو شارك لحظات قاسية.

إن المحتوى المنشور يقوم على الكمالية, إظهار الجانب المثالي من حياة الشخص

تتصفح آخر الأخبار فتجد مشاركات للنزهات والأصدقاء وقراءة الكتب وتخصصات جديدة ودورات كثيفة

لن تجد سوى هذه المثالية تدور في هذا المكان,

هل يمكنك تصور شعورك عندما تخرج من التطبيق وأنت رأيت ما لايقل عن 20 شخصاً شاركوا لحظاتهم المثالية

وأنت تنظر حولك ولاتجد شيئا لتفعله؟

كل هذه الممارسات ترفع الشعور بالحماس وتنتج الدوبامين لحظياً, ولنتوقف هنا للتفكير,

يصبح المستخدم غير قادر على الابتعاد عن استخدام هذه التطبيقات, لأن الدماغ يشعر بالسعادة بالدوبامين, وأنت تحاول إبعاده عن ذلك الإحساس الذي يطلبه

الإدمان, إذا كنت مدخناً سيسهل عليك فهم تأثير الممارسات والتفكير تجاه هذه التطبيقات, يمكنك الإحساس بشعور الخوف والتوتر عند التفكير حتى بالابتعاد عنها لمدة قصيرة

هل يمكن العيش أسبوعاً دون استخدامها؟ هل سيظل للحياة معنى؟

إذا كنا كل يوم نتخذ مئات القرارات دون وعي عند التصفح فسيصبح من الصعب القيام بالقرارات الحقيقية

سنجد صعوبة حتى في قرار ماذا سنتناول في وجبة الغداء.

السرعة, ليست كل شيء, يجب أن ندرك الاختلاف بين هذا العالم وبين الواقع, لايمكن أن تصبح سياسياً أو كاتباً محترفاً إذا ما شاهدت فيديو 15 ثانية عن جمال هذا المجال, ولايمكن أيضاً أن تتخذ القرار أن تكون لاعب كرة قدم لمجرد هذه الثواني المعدودة! وبمجرد انتهائها تسحب معك هذا الخيال لتعيشه في الواقع!

قد نعلم جيداً أنها لحظات خيالية ولكنك فعلياً تعطي أمراً للدماغ بأن يذهب باتجاه اختصاص آخر ويفرز الدوبامين في نفس اللحظة فيربط الدماغ الموقف بالسعادة وسيظل متأثراً بالقرار, وقد يشعر بالندم فور انتهاءه.

ولنعد الآن للفكرة في بداية المقال, يفقد الإنسان المقاومة حينما يبدأ فقدان الشعور بالمعنى,

الاستمتاع لحظياً لن يغطي الاحتياج بالشكل الحقيقي, فمثلاً يلجئ الكثير إلى المواقع الإباحية لتغطية احتياجاتهم الجنسية, ثم ما تلبث إلا أن تتحول هذه الممارسة إلى عادة يتقن فنها الدماغ ليبتعد عن السير في الاتجاه الصحيح.. لتكوين أسرة مثلاً؟

فيربط الحاجة الجنسية فقط بالمتعة اللحظية, للمشاهدة الخ..

وبمناسبة الحديث عن قوة العادات يقدم اليوتيوبر ناصر العقيل في قناته "دوباميكافين" 3 فصول يشرح فيه كتاب قوة العادات للكاتب Charles Duhigg : https://www.youtube.com/watch?v=MDXe80Wrke0

إن المعنى الحقيقي الذي يظل الإنسان يقاوم من أجله داخلياً يتكون من الألم, والأمل في نفس الوقت

فهما المحرك والدافع ليعاني الإنسان مرة أخرى من أجل ما يطمح إليه,

إن تلاشي معاني الكلمات الحقيقية في الدماغ قد يسبب خللاً حياتياً مستمراً, فيصبح الشخص غير قادر على اتخاذ قرار بشأن أي شيء داخلياً, وربما بسبب ذلك بالدخول في دوامة اكتئاب أو أمراض نفسيّة أخرى قد يعاني الكثير منها الآن

واكتساب عادات دماغية مدمرة على المدى الطويل أو القصير.


وأخيراً.. ليس من المنطقي الانعزال عن عالم الإنترنت بسبب الخوف من التطبيقات وتسرب البيانات, من الحكمة الخوف من النار, ولكن الغباء عدم استخدامها والاستفادة منها بسبب الخوف,

إن إدراك مثل هذا المعلومات يسهّل التعامل ويسهم في تحقيق الموازنة العقلية والانتباه لوجود مثل هذه الأفكار يجعلنا أكثر ارتياحاً وذكاءً كمستخدمين, ويمكننا أن نتحول من مجرد سلع لمساهمين مشاركين في هذا الفضاء "المخيف".

أسيد الطعان



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات أسيد الطعان

تدوينات ذات صلة