إن الله يرزُق بالأسباب وبدون الأسباب، فترك الاسباب بلاهةٌ والاعتماد عليها ككُل أبله وأضل.

يُحكى أن حاتم الأصم كان رجل كثير الأبناء،شديد الفاقة مُتوكلاً على الله في رزقه

كان جالساً ذات مرة مع أصحابه وكانوا يذكرون الحج،

فحرك ذِكرهم شوقه إلى الحج ثم دخل على أولاده، وقال لهم: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجاً لله!

فقالت زوجته وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئاً، ونحن على ما ترى من الفاقة.فأنى لك أن تطلب الحج ونحن ما نحن عليه؟!

فقالت ابنته الصغرة: ماذا عليكم لو أذنتم له ولا يُهمكم ذلك..فإنه مناولٌ للرزق وليس برزّاق!

فوافقوها الرأي، وقالوا: إذهب يا أبانا حيث قصدت.

فخرج مِن بيته قاصداً الحج، وتردد على بيته مِن بعده أقاربهم وجيرانهم موبخينهم أنى يأذنوا له بالحج؟! فانقلبوا يلومون أختهم الصغرى على ما بدر مِنها فلو سكتت لكان خيراً لهم!

فما كان مِنها إلا أن رفعت يَدها إلى السماء سائلة الله حفظهم وألا يخذي ظنها.

وبينما هم على ما تركهم أبيهم خرج أمير البلدة مُتصيداً، فضلًّ عن عسكره وأصحابه،

فأصابه ظمأ فقصد بيت حاتم وقرع الباب وقال: الأمير ببابكم مُستسقياً،

فقدمت زوج حاتم كوز ماءٍ، فأخذه الأمير وشربه فاستطاب الشرب مِن ذلك الماء، وقال:أهذه الدار لأمير؟!فقالت بلا،

إنها دار لعبد من عباد الله الصالحين يُعرف بحاتم الأصم!

فقال الأمير : لقد سمعت به، فقال الوزير: سيدي، إنه البارحة قد خرج إلى الحج،

ولم يُخلف لأبنائه شيئاً، وأخبرت أنهم باتوا بالأمس جياعاً!

فقال الأمير: ونحن اليوم أثقلنا عليهم، وليس مِن المروءة أن يُثقل مِثلنا على مِثلهم، ثُم خلع الأمير مِنطقته (ما يُلف بِه الوسط) وألقى بِها في الدار

ثم قال لأصحابه: مِن أحبني فليخلع مِنطقته ويلق بِها في الدار، ففعلوا ثم انصرفوا.

ثم جاءهم الوزير وقال: السلام عليكم أهل البيت، لآتيكم الساعة بثمن هذه المناطق ،ودفع إليهم ثمن المناطق واستردها مِنهم، فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بُكاءً شديداً، فقالوا لها: ما هذا البكاء إنما يجب أن تفرحي وقد منَّ الله علينا، فقالت: والله إنما بكائي كيف بيتنا جياعاً البارحة واليوم أغنانا الله مِن فضله..!

.

شتان بين التوكُّل والتواكُل!

إن الله يَرزُق الإنسان والطير والحيوان في مشارق الأرض ومغاربها بالسعي

لا يُطعِم الطير في عِشه دون سعي ولا يُطعِم الحيوان في الغابة دون سعي

ولا يُرزق المؤمِن ولو تعبد ليله ونهاره دون سعيو

لا يُحرِم المٌشرِك ولو عثا في الأرض إلا بدون سعي.

﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (هود – 6).

وإن التوكل على الله حق توكله هو الأخذ بالسبب دون الانقطاع عن رب السبب

والتسليم للُمسبب حتى لو لم يأت بنتيجة السبب!

أما التواكل فهو الانقطاع عن السبب واللجوء للمُسبب والسخط على المُسبب إذا لم يأت بما طُلب

كقول أحدهم لو شاء الله لأطعمني وسقاني ثم يشكو جوعه وظمأه!

وهُنا وخروج حاتم الأصم للحج وتركِه أولاده بِلا نفقةٍ فلا نحسبه تواكلاً على الله

رجلٌ تقطعت به سُبل الرِزق وحركه شوقه للحج، فتِلك عبادةٌ لا يُثبط عنها نصبها ومشقتها إنما يُرفرف القلب إليها..!

.

وعن ابن عباس (رضي الله عنه): أن كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون،

ويقولون: نحن المُتوكلون،فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله قوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾ (البقرة – 197).

وروي عن عُمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه رأى جماعة مِن أهل اليمن عاكفين في المسجد بلا عمل، فقال: مِن أنتم؟

فقالوا: نحن المتوكلون،

فقال: بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل الذي يلقى حبة في الأرض ويتوكل على الله.

ولما خرج جيش المُسلمين فاتحاً مشارق الأرض ومغاربُها خرج بالسيف! لم يقُل المُسلمون لو أراد الله لانتصرنا وأننا جيش الحق، والنصر خالصٌ لنا،

كما أن الأخذ بالسيف والعدد وحدهم ليس كافياً للنصر!

وها هو ذا خالد بن الوليد (رضي الله عنه) هزم المُسلمين قبل إسلامه في غزوة أُحد بَعد أن قتل رِماة المُسلمين عل جبل أحد وطوّق الجيش مِن الخلف،

وهو نفسه خالد بن الوليد الذي فتح بلاد الفُرس والروم ونشر الإسلام فيهم.

.

وها هي السيّدة مَريم (عليها السلام) كانت تأتيها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف

بغير حول مِنها ولا قوة.. قال تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أنى لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران – 37).

وها هو سيدنا إبراهيم (عليه السلام) قد ترك السيدة هاجر وولدها ببُقعةٍ لا زرع فيها ولا ماء، ودعا ربه مع انقطاع الأسباب.. قال تعالى: ﴿ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾ (إبراهيم – 37).

وها هو زكريا (عليه السلام) دعا ربه أن يَهب له غلامٍ مع شيبه وعُقر زوجه، فستجاب ربه وبشره بيحيي (عليها السلام)،

قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ (مريم – 9:8).

إن الله يرزُق بالأسباب وبدون الأسباب،

فترك الاسباب بلاهةٌ

والاعتماد عليها ككُل أبله وأضل.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات محمد الصاوي

تدوينات ذات صلة